عبدالله بشارة

سجل وزير خارجية مصر السابق، الصديق أحمد أبوالغيط مذكراته في كتاب اسمه (شاهد على الحرب والسلام) وأهداني نسخة قرأتها بتأمل وتأني لأنها يوميات شاهد شاطر ومدون للمحاضر وكلها تحكي عن يوميات حرب أكتوبر، وأسرار الثغرة، وينقل الكتاب حقائق معاناة الرئيس السادات مع الاحتلال وتصميم الرئيس على وضع حد لهذا الاحتلال عبر الدبلوماسية أو عبر الحرب أو بشراكة بينهما.
وعندما يكتب أبوالغيط ويجمع الأسرار في كتاب تاريخي يسدي خدمة كبيرة وغير مسبوقة لتاريخ بلاده ولحقائق الزعامات ولمهندسي الوقائع، ويلقي الضوء على نفسية القائد عند اتخاذ القرار التاريخي.
كان السادات يعاني من اهانة الاحتلال واذلاله لمصر ولتاريخها، ويتحمل بصبر اسطوري مناوشات الخصوم وغموض موسكو وتجاهل أمريكا ورزالة اسرائيل وانشغال العرب، وضعف الاقتصاد، واشاعات الحاقدين عليه.
إدراك السادات بأنه لا يستطيع الحركة من دون ازالة شبكة الناصريين التي تصور أعضاؤها أنهم ورثة عبدالناصر وأن السادات laquo;فاترينةraquo; تختفي وراءها القوى الشرعية الوارثة للحكم..
كانت مجموعة كبيرة أبرزها القائد محمد فوزي، والسكرتير سامي شرف، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، والدفاع أمين هويدي، وأعضاء التنظيم الطليعي السري.
وبسهولة غير متوقعة أنهى السادات عصرهم، ليتفرغ للمأمورية التاريخية في انهاء الاحتلال.


توجه الى موسكو طالبا السلاح، لكن موسكو تشكك في نواياه وتشك في قدرة الجيش المصري، وتتردد في تزويده بالسلاح المطلوب، لكنه لم ييأس، اقترح مبادرة الخطوات في انسحاب الجيش الاسرائيلي من القناة الى الممرات مثلا، لكن رد جولدا مائير كان بأنه لا انسحاب دون اتفاق سلام، ولم تعبأ بخطب السادات عن اتخاذ قرار الحرب الذي أُجل كثيراً من أجل استكمال آليات المشروع.
ذهب مستشاره الخاص السيد حافظ اسماعيل الى واشنطن في فبراير 1973، فيرده كيسنجر بأن ميزان القوى لا يعطي مصر حقا في توقعات عن انسحاب اسرائيل من دون مبادرة غير مسبوقة، وذهب السادات بنفسه في رحلة سرية الى موسكو في فبراير 1973 بعد ان تعرف على سلبية الموقف الأمريكي، وطلب من موسكو السلاح الفعال بطائرات وصواريخ تساعده في تبدل ميزان القوى وكانت الحصيلة وعود كثيرة وأسلحة أقل مما يتوقع وبأقل فاعلية، ويعود حافظ اسماعيل الى كيسنجر في باريس خلال مايو 1973، ويخفق عائدا الى القاهرة مع حصيلة سيئة وسلبية من واشنطن.
وفجأة يصل الى القاهرة وزير الدفاع السوفيتي في مايو 1973، في خطوة معبرة عن الشكوك في نوايا السادات ويفرض عليه توقيع اتفاقية دفاعية، وقَّعها السادات على أمل الحصول على شيء جديد، مع أنه كان عازما على المضي في خطواته السرية، فاتصل بواشنطن من أجل ازالة شكوكها حول هذه الاتفاقية المصرية ndash; السوفييتية.
كان السادات اتخذ قراره، بعد الجولات المضنية، بضرورة الحرب وعزم على ان تكون سنة 1973 آخر المطاف، وبالآليات العسكرية التي يملكها، ولذلك تجول في العواصم العربية ليحشد مؤازرتها، ونجح مع الملك فيصل ومع الخليج والمغرب، وأقنع الأسد بالمشاركة، وتحاشى الملك حسين، وذهب يشكو الى مجلس الأمن فخذلته أمريكا بالفيتو في يوليو 1973.


أخطر قرار اتخده السادات كان يوم 30 سبتمبر 1973، في اجتماع في منزله بالجيزة، وهو اجتماع لإقرار الحرب، وشارك فيه محمود فوزي، وعزيز صدقي، والفريق أحمد اسماعيل، وعبدالقادر حاتم، وحافظ بدوي، وأحمد ثابت وزير التموين، وممدوح سالم وزير الداخلية، وأشرف غربال، ويسجل أبوالغيط [بأن السادات قال إن أيا من حكام مصر على مدى عشرة آلاف سنة لم يواجه الوضع الذي يواجهه السادات، وأن الواجب الآن اتخاذ القرار المصيري، وأن تعتمد مصر على نفسها، لأن المطروح أفكار امريكية تنتهي بحل جزئي يحول الاحتلال الى حقائق باقية، وشرح الوضع الاقتصادي الصعب، وتحدث عن موسكو التي تدعم مصر لكنها تتمسك بالأساليب القديمة لابقاء مفتاح الموقف في يدها، وأن القوات المصرية من أكتوبر 72 وإلى أكتوبر 73 جرى اعدادها ولها قدرات كبيرة، وأنه يطلب رأي الجميع في هذا القرار] وتحدث المشاركون كل برأيه، البعض يتخوف، والآخر يتحدث عن صعوبات الوضع الداخلي، وفريق آخر يطلب المزيد من الحشد العربي، ومجموعة ترى أن الصبر لستة شهور، لتأمين مشاركة عربية، وتتحدث الصفحات من 153-162 بكل التفاصيل عن ذلك الاجتماع وأنصح بقراءتها.
كما تطرق اللقاء الى النفط كسلاح وتوظيفه، ويتدخل الفريق أحمد اسماعيل، قائد الجيش، طالبا أن يبدأ الجيش المصري بالعمليات وبشكل مفاجئ، وأن تقوم العمليات على أساس القدرات المصرية المتاحة، ولا يمكن تحرير سيناء من ضربة واحدة، كما لا يمكن القيام بحرب استنزاف جديدة.


المهم ان الاجتماع انتهى في الساعة الثانية من فجر أول أكتوبر 1973، واتخذ قرارالحرب، في ثقة بأن الجيش المصري قادر على العبور وايذاء العدو.
ويتطرق الكاتب الى مأساة الثغرة، مشيرا الى ان الفريق حافظ اسماعيل له خلاف قديم مع الفريق الشاذلي رئيس الأركان منذ خدمة الاثنين في الكونغو 1961، وأن التفاصيل حول الثغرة، لم تكن تصل إلى السادات بالسرعة المطلوبة، وأن الشاذلي يريد اعادة الجيش الثالث الى غرب القناة بينما يصر السادات على بقائه لأنه حقق عملية العبور المعقدة بأبعادها السياسية والاستراتيجية.
كانت الثغرة مؤلمة للمعنويات للسياسيين ولأفراد الجيش، لكن خطة السادات كانت تعتمد العبور ثم وقف الحرب والانطلاق للعمل السياسي.
توقفت الحرب في 25 أكتوبر 1973، بمصادقة مجلس الأمن الذي أضاف القرار 338، وهو مكمل للقرار 242، حيث يدعو الى مفاوضات مباشرة بين الأطراف، ومن هنا توجهت الأنظار الى مؤتمر جنيف للسلام في ديسمبر 1973، الذي عقد جلسة واحدة ثم انفض دون لقاء آخر، ولم يكن السادات متفائلا بنتائجه، خاصة بعد فوز laquo;الليكودraquo; بالانتخابات الاسرائيلية، وتصلب مواقفها وبدأ السادات ينفر من البطء في احراز تقدم.
يشير المؤلف الى ان القيادة العسكرية خلال حرب أكتوبر تركت جميع القرارات بيد الرئيس السادات وأن قيادة الجيش التي يجتمع معها يوميا لا تقدم مقترحات لها طابع القرار وانما تستعرض الوضع، تاركة للرئيس تحمُّل المسؤولية، ويبدو ان هذا الوضع دفع بالمستشار الخاص حافظ اسماعيل الى الذهاب الى الأعضاء القدامى من قيادة الثورة، كمال الدين حسين، والبغدادي والشافعي من أجل تحمُّل المسؤولية ومشاركة السادات، وهو الأمر الذي أغضب السادات، وانتهت بذلك مأمورية حافظ إسماعيل.


كان السادات مدركا لحكم التاريخ عليه، قابلا بالمسؤولية واثقا من خطواته ملتزما بتحرير أراضيه متحملا الأعباء من أجل استخلاص سيناء من الاحتلال، كان عازماً على عودة سيناء من دون احتلال ومن دون قواعد.
مرت أربع سنوات عجاف في رزنامة السادات، كلها اتصالات هادئة وجس نبض ومقترحات، لكنها لم تحقق شيئا، بينما الوضع الداخلي يزداد سوءا بما فيها الحالة المعيشية وتوقف الامدادات الروسية، وبرود التحرك الأمريكي، وقناعة السادات بأن حرب أكتوبر آخر البطاقات السياسية والعسكرية، مع متابعته لاستمرار السياسة الاستيطانية الاسرائيلية في سيناء والضفة، كل ذلك أدى الى تدخل عنصر غير متوقع في ترتيبات اللقاءات في المغرب بين مصر وإسرائيل.
ويتجه السادات الى استخلاص سيناء بقرار يتجاوز فيه خطوط الدبلوماسية الثقيلة والتقليدية بإعلانه زيارة لاسرائيل تتم في نوفمبر 1977.
ويضم الكتاب تحليلات عاقلة ووثائق نادرة عن تلك الفترة laquo;مسيرة السلامraquo; ويتحدث عن مشروع اسرائيل الذي قدمه بيجن، رئيس الوزراء، الى السادات في قمة الاسماعيلية فيه اصرار على الاحتفاظ بالمستوطنات وبالقواعد العسكرية وبامتيازات اضافية، ويغضب السادات، ويفشل اجتماع اللجنة السياسية الذي عقد في 16 يناير 1978 في القدس بعد خطاب بيجن بتسفيه المواقف المصرية وحقوق الفائز في الحرب الدفاعية، ويسحب السادات وفده، وهنا يتدخل الرئيس كارتر بتوجيه دعوة الى السادات لزيارة واشنطن في 4 فبراير 1978.


ويتحدث السادات خلال زيارته الى أمريكا بخطة اعلامية وسياسية ينقل فيها واقعه مع بيجن الى مكتب واشنطن ومع المنظمات اليهودية، مسلحا بالعناد الاسرائيلي، وباخفاقات الاجتماعات في مينا هاوس في القاهرة وفي الاسماعيلية وفي القدس، مع تشجيع واشنطن لتقديم مقترحات، ويعود بعد زيارة ناجحة سياسيا واعلاميا.
ولكن بيجن يردد رفضه الانسحاب التام من سيناء في رسالة الى السادات في الخامس من مارس 1978، ويرد السادات بقوة، ويعاند بيجن برسالة أخرى مكررا حقوق الحرب الدفاعية، وتتقدم الولايات المتحدة بأفكار لم تنجح في إنقاذ الموقف، وتتوالى الخطوات حتى شهر سبتمبر 1978، حيث تم التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد للسلام، بعد ان قرر السادات العودة بلا اتفاق، غير ان لقاءه مع ديان في يوم 14 سبتمبر بدل الموقف بعد ان تم الاتفاق على ترك الانسحاب الكامل من سيناء لقرار الكنيست، وانسجاما مع ذلك صوَّت الكنيست على الاتفاقية مع الانسحاب الكامل وازالة المستوطنات من سيناء، وتفكيك القواعد العسكرية.
ظل السادات مهموماً متخوفا من خداع اسرائيلي مفاجئ في تأخير الانسحاب ويتذمر من النقد اللاذع للاتفاقية ولاسيما من الأصوات الراغبة في احراجه بسبب اخفاقاته، ولذلك كان يتصرف بعصبية حرصاً على هدوء المشهد المصري الداخلي.


وحقق السادات ما يريده لكنه لم يشهد احتفالات التحرير، لأن الأقدار كان لها رأي آخر، ففي يوم 6 أكتوبر 1981 تم اغتياله من المتطرفين الاسلاميين، وذهب فداء لوطنه منهيا عصر الاحتلال.. كان السادات وطنيا مصريا يحمل تراب مصر في أعماق ضميره.
ويواصل المؤلف مذكراته حيث يتناول الغزو العراقي لدولة الكويت، وما جرى في اجتماع وزراء خارجية العرب في القاهرة في الثاني من اغسطس 1990، ويقول إن المناقشات في الاجتماع سببت صدمة كبيرة لمصر، اذا تولى فاروق قدومي تبرير الهجوم العراقي، كما وقفت وفود كل من اليمن، الأردن، السودان، الى جانب الحاجة إلى تفهم الموقف العراقي.
ويشير أبوالغيط الى اجتماع عصمت عبدالمجيد مع سعدون حمادي بمفردهما حيث تولى أبوالغيط كتابة المحضر، ويؤكد أن حمادي عرض على مصر جائزة كبرى تتمثل في قسط كبير من الموارد الكويتية، وأن العراق ضم الكويت لأراضيه وأن أي طرف عربي يحاول التصدي فسوف يقطع العراق يد هذا الطرف.
ويضيف أن مصر أعدت مشروعا يدين الغزو، ويدعم موقف الأمم المتحدة، وتم التصويت، واعترضت عليه منظمة التحرير، والأردن والسودان واليمن، وتوقفت العلاقات المصرية ndash; الفلسطينية لكن السيد laquo;أبومازنraquo; واصل اتصالاته بالقاهرة والتقى عصمت عبدالمجيد وزير خارجية مصر، قائلا بأن ياسر عرفات يستشعر الموقف الذي يجد فيه نفسه، وأنه معزول ومنبوذ، وأن عودته الى مصر ولقاءه بالرئيس مبارك يمكن ان يسهم في إنقاذه من ورطته، وأن مصر تسامحت مع الملك حسين، فلماذا لا تتغاضى عن أخطاء ياسر عرفات، ويرد أسامة الباز الذي شارك في الاجتماع بأن عرفات قام بالكثير من التصرفات التي ضايقت القيادة المصرية.. (ص381).
ويستمر أبوالغيط في مسؤولياته كسفير في الأمم المتحدة ثم وزيرا للخارجية، مركِّزا على المفاوضات حول الدولة الفلسطينية حيث صادق مجلس الأمن بالاجماع على قرار مجلس الأمن حول الدولة الفلسطينية في مارس 2002، ثم القرار الأخير الذي يبزر حق شعب فلسطين في تقرير المصير ودولته، القرار رقم 1515 في نوفمبر 2003.
ويستطرد الكاتب في حديثه عن الفرص الضائعة التي لم يستفد منها العرب بسبب التباين في التوجهات وعدم الثقة وغياب التنسيق، وينتهي الكتاب في تحليل عن فشل الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني في قبول مشروع الرئيس كلينتون، وقوله بأن عرفات خشي من ثقل مسؤولية التاريخ ولم يتعامل ايجابيا مع مبادرة كلينتون في طابا في ديسمبر 2001، بينما كان أبومازن يؤيدها، الأمر الذي لم يرتح له وزير خارجية مصر عمرو موسى الذي كان يطالب بالمزيد متجاهلا موقف أبو مازن.
يتميز الكتاب بوثائقه، وبتحليلاته، وبمتابعة دقيقة للدبلوماسية المصرية في معالجتها للعلاقات مع اسرائيل في جوانبها المصرية والفلسطينية بشكل خاص والعربية بشكل عام.
كما يتميز بأن محتوياته خرجت من خزان شريك مباشر في كامل الأحداث، اتخذ نهج الموضوعية تاركا للقارئ والباحث استخلاص ما يريد.
لا شك بأن المجموعة المميزة التي عملت في laquo;الخارجية المصريةraquo; لعبت دورا في شرح الوثائق ودراستها بشكل يسهل مهمة صاحب القرار، وهذه المجموعة عرفتها شخصيا في نيويورك، الوزير الثقيل والناضج عصمت عبدالمجيد، والنشط المتوقد عمرو موسى، والعاقل الحكيم نبيل العربي، والمتحرك القابض على التفاصيل أحمد أبوالغيط.
وأنصح القارئ بالتوقف عند لقاء الرئيس السادات مع وزير الخارجية محمد ابراهيم كامل خلال أزمة المفاوضات في كامب ديفيد، ورد السادات على تعليق الوزير.. (صفحات 319 ndash; 334).
تبقى جملة لابد من تسجيلها بأن المرحوم عصمت عبدالمجيد، الذي توفي الأسبوع الماضي، رجل الدبلوماسية المتزن حافظ على الخط الوقور للدبلوماسية المصرية في وجه صعوبات جاءت من قمة بغداد بالمقاطعة، وتحمَّل شتائم من شخصيات عربية سورية وفلسطينية وليبية وعراقية، وكنت مع سفراء الخليج نبتعد عن المهازل السوقية.
ويظل دوره في دعم الكويت عندما كان وزيرا للخارجية يوم الغزو المشؤوم ومحاولات ممثل العراق التأثير عليه، ظل رجل مبادئ وحكمة ووقار وانتقل الى رحمة الله تاركا سجلا من الانجازات والاعجاب والكبرياء..
رحمه الله وأدخله الفردوس الموعود مع الصادقين الشرفاء..