سالم سالمين النعيمي

كتابة التاريخ لا تخلو من التأثر برؤى ومعتقدات وانطباعات وأفكار مسبقة وأنماط ذهنية وسلوكية ونفسية تجعل المؤرخ في أغلب الحالات متحيزاً لدرجة ما مهما كانت ضآلتها، ويكون تدوينه للتاريخ بأسلوب سينمائي روائي شيق يجعله سلعة رائدة ومقبولة للقراءة في العصر الذي كتب فيه، وبما لا يخالف توجهات السلطة أو القوى المختلفة المهيمنة على الحياة السياسية الاجتماعية والمجتمع نفسه، فكتابة التاريخ تمنح المؤرخ فرصة لتقديم وجهة نظره الخاصة في سرد وتفسير التاريخ، في عملية وجدانية وذاتية لإقناع القارئ بحججه التاريخية وجذب أنوار الشهرة والخلود لحضارة ما دون سواها.

ولكن لماذا يُكتب التاريخ؟ ومن يكتبُه؟ ففي الحقيقة قد تساعدنا قراءة التاريخ في الوصول لفهم أفضل لوجودنا البشري على هذا الكون، وفي الاستفادة من دروس الماضي، وأخذ العبر وعدم تكرار الهفوات نفسها مع محاولة تقليد ما هو ناجح بالإضافة إلى تعزيز هوية الشعوب وإحساسها بقيمتها في الوجود، وبالتالي رفع مستوى تقدير الذات لدى الأشخاص وأعطاهم الكثير من الثقة والفخر بماضيهم وتحفيز رغبتهم في الحفاظ على ما تحقق من بناء وقيم ومنجزات تاريخية وإعطائهم دافعاً معنوياً ونفسياً كبيراً لإضافة الجديد من الإنجازات، ليضاف لذلك التاريخ، وهو يمثل أهم عناصر ومكونات الهوية القومية للشعوب.

وفي جانب آخر، فإن التاريخ هو حجة الغياب الوحيدة لأبشع السلوكيات والجرائم التي ارتكبتها الإنسانية، وبالتالي تفسير وتبرير ادعاءات وممارسات وسلوكيات عدائية أو إقصائية أو وحشية في جميع مناحي الحياة، وأخذ السبق في كل ما هو جيد ومميز ونسبه لعرق أو دين أو جماعة بشرية معينة، بل الشعور الشخصي بالمشاركة الشخصية في صنع ذلك التاريخ من خلال نسبه للأجداد السابقين دون سواهم، وبالتالي تأصيل تقسيم المجتمعات حسب المنجزات التي نسبت لها، ووضع معايير خاصة وتعميمها على الآخرين، بل إلزامهم بها، وإلا أخرجوا من جنة كلمة حضارة وكل ما هو حضاري، وغالباً من يسطر ذلك التاريخ المنتصر والأقوى الذي يملك الإمكانيات الأكبر لإخضاع الغير لسلطته وهيمنته دائماً.

ومن الأمور التي تعد في غاية التناقض والازدواجية اتهام الكثير من السياسيين والمفكرين والخبراء المتخصصين في الغرب لمذاهب ومدارس دينية إسلامية رسمية معينة، بتأجيج نار التعصب والتطرف، وقد تكون محقة في بعض الحالات، ولكن لو نظرنا للغرب وأميركا على وجه التحديد، لوجدناهم من أهم مكونات نشر ثقافة التطرف عالمياً، والمثال على ذلك التاريخ الذي يدرس للطلاب هناك هو تاريخ نسخة خاصة بهم يصور الفتوحات الإسلامية، ورسولنا الكريم بصورة غير لائقة باسم حرية النقد العلمي، وتضع حواجز نفسية وعقلية تمنع تقبل الرجل الشرقي بصورة عامة والمسلم بصورة خاصة بين عامة أفراد تلك المجتمعات، وتكريس فكرة الدونية الثقافية للمجتمعات الشرقية، فلا يدرس فنها ولا ثقافاتها، ولا أدباءها ومبدعيها من موسيقيين ورسامين وشعراء..الخ، لأنها لا ترتقي للثقافات الرائدة التي تحظى باحترام الغرب، ناهيك عن تصوير الشرقي وتصنيفه كإنسان عالق بين البدائية والحداثة، والغرب ليس وحده متهم بذلك التلفيق وجعل الأكاذيب جزءاً من التاريخ الإنساني، فكل الحضارات الأخرى شاركت في تلك المسرحية التاريخية لكتابة التاريخ من منظور يناسب ثقافاتهم ولا يضعهم خارج المنافسة في الأثر الذي تركوه في المجتمع الإنساني ككل، بل لم يكتفوا بذلك بل لطخ الدين بتلك البقعة من الأساطير الخيالية ونسب للدين ما يجعل المرء يتساءل: لماذا لم يترك الدين خارج هذه الحسبة عطفاً على ما يشاهده من عنف وتخلف ورجعية باسم الدين؟ وبسبب كتابة التاريخ الانتقائية، أصبحت مفاهيم وأفكار عديدة مثل الأمة والوطنية والمواطنة والتنظيم السياسي والمجتمعي والثقافي للإنسان وماهية حقوق الإنسان مصبوغة بصبغة سياسية أو دينية أو ثقافية أو توسعية إمبريالية، لا تمت للعلم بصلة، وأصبحت منتجات الأفكار التاريخية المقلدة والمزورة هي السائدة في أرشيف كل دول العالم.

ومخطئ من يظن أن الشعوب لا تدرك أن الخطوة الأولى في تصفية شعب هو محو ذاكرته وتدمير وتشويه وتزوير كتبه وثقافته وتاريخه، وهذا التغيير ساهم في تغيير نظرة العالم للثقافات المختلفة، ونظرة تلك الثقافات لنفسها، وهو مربط الفرس في حوار الحضارات وصعوبة قبول حوار جمعي يتقبله الجميع في ظل الدور الذي لعبته الأنظمة السياسية، ووكالات الاستخبارات المركزية في العالم القديم والحديث ضد فكرة تساوي الشعوب وأن ما وصلت له الحضارات هو بناء تراكمي شاركت فيه جميع الثقافات بعيداً عن العشوائية المعرفية.

فمهما جند وسخر الإعلام بكل وسائله والثقافية والفنون والدوائر الأكاديمية والمراكز البحثية والمثقفين لنشر أفكار بعينها وجعلها جزءاً من التاريخ، ومسح حقائق أخرى لا تناسب توجههم، وهو ما فعلته جميع الإمبرياليات على مر التاريخ في الحقيقة دون تمييز بينها، فإنه قد أصبح ما بين أيدينا اليوم من تاريخ يحتاج لمراجعات جادة للقيام بالخطوة الأولى في حوار جاد بين الحضارات في ما بينها، وقبل ذلك أن تنظر كل ثقافة وحضارة داخلياً لإعادة تقييم نفسها وتاريخها وثقافتها، فالحوار يجب أن لا يسير باتجاه واحد ومن جانب بعينه وذلك للتمهيد لعولمة الحوار بين الحضارات على أسس إنسانية عادلة.

فالتاريخ لم يكتب لأسباب علمية فقط، بل لإحداث عودة رجعية مع البيولوجيا الاجتماعية وادعاء الفروق العرقية ووضع مقاييس نهائية للثقافات المتقدمة ووصف الثقافات الأخرى بأنها بدائية والكثير من الألفاظ التي تعج بها كتب التاريخ وإسقاطها على الآخر المختلف، أو من يرغبون في السيطرة عليه وتحديد دروب ومحطات مرور شعلة العلوم والتقدم الثقافي من بلاد ما بين النهرين ومصر إلى اليونان إلى روما لأوروبا الغربية إلى الولايات المتحدة الأميركية، والغرب يدرس تلك الحضارات على أنها حضارات غربية وفصلها عن موقعها الجغرافي وترك فجوات واسعة مع ذكر الحضارة الإسلامية والصينية والهندية في أمثلة مختلفة تضرب، ولكن لا تؤخذ تلك الحضارات مأخذ الجد، ومساوية في وجهة نظرهم للحضارات الأساسية في البناء الإنساني والعنصرية الغربية تقابلها عنصرية هندية وصينية وعربية وإسلامية ومسيحية...الخ، في وصف التاريخ وتجاهل العثور على العلوم المتقدمة، والفن، أو الهندسة المعمارية في أفريقيا أو أميركا الجنوبية على سبيل المثال، ووصف الحضارة الهيلينية الإغريقية والرومانية والأوروبية والأميركية على أنها الحضارة الغربية، ولكن عندما يرجع الأمر بالحضارة الفرعونية على سبيل المثال من المستحيل أن تذكر على أنها حضارة أفريقية، والأمثلة لا تعد ولا تحصى في التحيز والنظرة العنصرية البغيضة الضيقة في كتابة التاريخ من جميع الشعوب بلا استثناء ووصف شعوب بعينها على أنها ناقصة من الناحية الثقافية والمعرفية والمجتمعية.

وإذا ما تطرقنا إلى واحدة من أكبر الأكاذيب التي تتداول عالمياً وتدرس كحقيقة علمية في كل جامعات ومدارس الدنيا هي أن الإغريق هم من اخترعوا علوم الفلسفة، ولكن هذا العلم ظهر فجأة في اليونان بعد فتح الإسكندر المقدوني لمصر ونقل وترجمة كل العلوم المصرية ونقلها لليونان مثل تعاليم الأسرار الفرعونية في كتاب الموتى فمن فيثاغورس إلى طاليس (640 قبل الميلاد) إلى هيراكليتس (530 قبل الميلاد)، إمبيدوكليس، أنكساغوراس وديموقريطس وكل المهتمين بعلوم الفيزياء وتتبع مسار ما يسمى الفلسفة اليونانية، نجد أن الطلاب بعد الحصول على تعليمهم من الكهنة المصريين، يعودون إلى وطنهم بعد تلقيهم تعلميهم في ما يسمى مدارس الغموض الكهنوتية الفرعونية ويصبحون بين ليلة وضحاها فلاسفة.

ففي عام 399 قبل الميلاد، حكم على سقراط بالإعدام واضطر أفلاطون وأرسطو إلى الفرار للنجاة بحياتهم من أثينا بعد أن جلبوا علوماً ليس لها مرجعية في العقلية والحالة النفسية والشعورية اليونانية مما يشير إلى أن حرية الوصول إلى مكتبة الإسكندرية هي السر الذي صنع ما يسمى الفلسفة اليونانية وبعد وفاة أرسطو، قام تلاميذه دون إذن من الدولة، بتجميع تاريخ الفلسفة المعترف بها في ذلك الوقت باعتباره حكمة المصريين، فمصادرة ونهب المكتبة الملكية في الإسكندرية، ونجاح خطة أرسطو لسرقة إرث الفلسفة المصرية خدع العالم بنسب الفلسفة لليونان ولكن لم يحل لغز أصل وجذور الفلسفة اليونانية الفكرية ولم يتطرق لها المؤرخون الإغريق، حتى أتى الأوروبيون في القرن الخامس عشر، وما تلاه من قرون، ووضع تاريخ للفلسفة ونسبها للغرب كحق حصري، وهو نموذج بسيط وغيره هناك آلاف من الأحداث والمستندات والقصص والرويات والأوصاف والوثائق التاريخية غير الحقيقة أو الملفقة أو التي تم التلاعب بها أو تغييرها أو نسبها لغير أهلها ولا يوجد لها أي دليل علمي معياري، ومع ذلك أصبحت حقيقة تاريخية مسلم بها، ولهذا قبل الشروع في تصحيح مسار التاريخ، يجب التأكيد على أهمية التاريخ في فهم وتقبل الآخر ليس كما تريد أنت أن تراه، أو أخبرت ولقنت كيف تراه، ولكن باستخدام معايير جديدة، وتقبل فكرة أن ما كنت تؤمن به طوال حياتك قد يكون خطأ وغير حقيقي لبدء حوار فاعل وأن لا تكون جهود إعادة كتابة التاريخ الذي يعد نظام فصل عنصري علمي بصورته الحالية حصراً على الدوائر الأكاديمية والبحثية الغربية، بل بمجهود أممي يشارك فيه الجميع بموضوعية قد تشوه التاريخ، ولكن ستساهم في إصلاح وإعادة برمجة الكثير من النفوس والعقول نحو كتابة تاريخ محايد وغير متحيز ليكون هناك حوار تكاملي ومستدام بين الحضارات.