طيب تيزيني

كم على الإنسان أن يتجرد من إنسانيته ليتماهى مع ما ليس إنساناً، أو الحق أنه من السهل أن تتصور هذا الذي ليس إنساناً، ولكن كم نحتاج إلى قوة تخيل حتى نعرف ملمحاً أو آخر من هذا laquo;اللاإنسانraquo;، ومن أجل ألا نقع في التباس.

ما حدث أظهر أن تطور الإنسان إياه عملية تاريخية تقوم على التناقض والصراع، ها هنا، يظهر فعل السلطة السياسية وتوزيع الثروة المجتمعية والقدرة الإعلامية على توجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو في ذلك، وفق احتمالات الصراع الاجتماعي الطبقي وغيره من الأحداث المجتمعية، فما كان يراد له أن يسير وفق مستلزمات تطويع العالم لصالح أنسنته ورفع مستوياته لصالح المجموع، وخصوصاً لصالح القوى المجتمعية التغييرية الحية، يأخذ منحى آخر من استبدال العملية الإنتاجية على أيدي سادة السلطة السياسية المالكة لوسائل الإنتاج. إنهم يملكون هذه الأخيرة وهم الذين يحتكرون الثروة الاجتماعية ووسائل الاستئثار بها والتصرف بها.

والحروب هي- في هذه الحال- الإمكانات التي تتيح لسادة المصالح والمال أن تثري أكثر وتمكن سيطرتها على البلد إلى فترات أطول من مدد استمرارها في السلطة.

هذا هو واقع الحال في سوريا، فالسلطة إلى الأبد تبقى في أيدي النظام الأمني القائم لقد حرمت سوريا من الحراك السياسي منذ عام 1969 على أيدي حافظ الأسد وبشار الأسد، دونما مساءلة أو مناقشة، رغم الحطام الهائل الذي ألم بالبلد، وثمة القصة المذهلة التي ألمت بالبلد الحزين على أيدي شخصين في البلد، هما اللذان استباحا درعا، وهما المحافظ وأمين الحزب الوحيد، وحتى الآن، كما نعرف، لم تتم مساءلتهما.

ورغم الدعوات الكثيفة التي قدمت للسلطة العليا لاستخدام الحكمة والعقلانية لحل الأزمة، لم يلجأ أحد إلى ذلك، فظل التدمير سيد الموقف. وقد زاد الموقف اضطرابا وإحراماً، حين لجأ سادة الحرب إلى إلقاء laquo;براميل متفجرةraquo; على الأحياء المدنية الآمنة في حلب المنكوبة، كيف يتجرأ هؤلاء على ذلك؟

لقد استلم النظام الأمني أيقونة متفردة في سيرها على طريق التقدم النسبي، بعد الاستقلال الوطني من فرنسا، وها هي هذه الأيقونة تتصدع تحت قبضة البراميل المتفجرة والسؤال الأعظم ها هنا يفرض نفسه، ويأتي على النحو التالي: من الذي أقر من النظام الحالي قرار إمطار سوريا بتلك البراميل؟ كيف ذلك؟ وتحت مسؤولية من، هل هي مسؤولية روسيا أو إيران أو laquo;حزب اللهraquo;؟ فالقيام بهذه العملية إنما هو أمر يقود إلى أسئلة كبرى لا تحصى. ألا يعلم من أطلق هذا القرار أنه يمثل قرارا بقتل الشعب السوري، وفي مقدمته أطفاله ونساؤه وشيوخه، وبتدمير ما كلف الشعب السوري مليارات من الأموال والجهد البنائي.

إنها لم تحدث في التاريخ البشري: إن النظام السوري الذي وجد نفسه قبل ثلاث سنوات أمام تظاهرات شعبية تطالب بإصلاحات مشروعة كل الشرعية، لم يقرأ هذا المطلب بروح وطنية نقدية، ولكن-بمساعدة مستشارين متمرسين بقهر الشعب السوري. وهذا ما خبرته تماماً، حين كان الأمر في البلد منوطاً بلجنة استشارية ديمقراطية كنت على رأسها، فأطيح بتلك اللجنة، وحلت محلها مجموعة هي التي تصرفت على النحو الذي جاء بعد ذلك.

ما جاء بعد ذلك يمثل سابقة خطيرة في التاريخ السياسي والعسكري، يتحمل مسؤوليتها من خطط لتدمير سوريا، كيف ذلك، ولم ذلك، وما هو القادم بعد ارتكاب نكبة غير مسبوقة؟ إنها كارثة وطنية يراد لها أن تنتهي.