إياد أبو شقرا

سمعنا خلال الأيام العشرة الماضية كلاما كثيرا عن نضج طبخة ما تتعلق بتسوية سلمية للأزمة السورية التي تكمل خلال بضعة أيام سنتها الثانية. ومن منطلق الحكمة الشعرية القائلة: laquo;.. وما آفة الأخبار إلا رواتهاraquo; من الأفضل تحاشي التوقف طويلا أمام الأقوال والتركيز أكثر على الأفعال.
أبرز الأفعال، ما يلي:

1) تصعيد النظام السوري قمعه الدموي الانتفاضة الشعبية، وسعيه الواضح لإحداث إعادة فرز ديموغرافي على الأرض عبر تدمير مدن وقرى وتهجير سكانها، ولا سيما في مدينة حمص وريفها، وفي بعض ضواحي دمشق.

2) الاحتضان الإيراني الكامل للنظام السوري، وصولا إلى التكلم باسمه، كما حدث خلال المؤتمر الصحافي في طهران عندما تطوّع وزير الخارجية الإيراني الدكتور علي أكبر صالحي للإعلان عن نية الرئيس بشار الأسد الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.. بحضور زميله السوري وليد المعلّم. وعلى الصعيد الميداني، ما عاد ثمة شك في الدعم الإيراني المباشر للماكينة العسكرية لنظام دمشق سواء عبر مشاركة حزب الله اللبناني في القتال، أو خرق لبنان - الذي يعيش في ظل سلاح laquo;الحزبraquo; - الحظر الدولي المفروض على سوريا.. عبر سماحه بتزويد قوات الأسد بالوقود.

3) جولة وزير الخارجية الأميركية جون كيري في الشرق الأوسط على وقع تفويض الرئيس باراك أوباما إياه مواصلة laquo;التفاوضraquo; مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في أعقاب مكالمة هاتفية بين أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذا مع أن الموقف الروسي معروف في أعقاب ثلاثة laquo;فيتوهاتraquo; صريحة. واللافت أنه سبقت هذه الجولة إعلانات أميركية عن أنها مخصّصة لـlaquo;الإصغاءraquo;، بمعنى أنها لا تطرح جديدا في ظل قرار واشنطن ترك السوريين لمصيرهم.. بعد عقود من التحريض على نظام دمشق ورميه بتهم احتضان الإرهاب ورعايته.

4) إصرار الوسيط الدولي السيد الأخضر الإبراهيمي على مواصلة laquo;وساطتهraquo;، على الرغم من اتضاح أبعاد laquo;الصفقةraquo; المُوحى بها بشأنها. وهذا أمر يؤسَف له من دبلوماسي عربي مخضرم بالمقارنة مع موقف سلفه كوفي أنان.. الذي اختصر الطريق فرفع مسؤوليته عن laquo;مأساة - ملهاةraquo; يُراق فيها الدم السوري، جنبا إلى جنب مع تمزيق النسيج الاجتماعي لسوريا وإشراع بواباتها أمام جهاديّي العالم وتكفيرييه.

إنها أربع حقائق ما عاد ممكنا المُجادلة فيها.

وهنا أعود بالذاكرة إلى التنازلات التي قدّمها ميخائيل غورباتشوف، آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي السابق، إلى الرئيس الأميركي رونالد ريغان قرب نهاية الحرب الباردة.

يومذاك قدّم غورباتشوف تنازلاته لأكثر رؤساء أميركا laquo;تشدّداraquo; وlaquo;يمينيةraquo; وألدّهم عداوة للاتحاد السوفياتي.. الذي كان يصفه بـlaquo;إمبراطورية الشرraquo;.

التنازلات تلك فاجأت كثرة من المراقبين، من جهة لأنها بدت غير مشروطة، ومن جهة أخرى لأنها قُدّمت إلى إدارة أميركية كانت فعليا تريد - وتتوقّع - من موسكو الاستسلام الكامل.. لا الشراكة. وعلى وقع التصفيق الغربي ودغدغة مشاعره بالزعم أنه laquo;رجل رؤيوي مُلهَمraquo; يخوض نهضة تجديدية عظيمة، صدّق غورباتشوف الكذبة فمضى قدُما في عملية تجديد خرقاء لم تحسب حساب العامل التراكمي في ترّهل الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، استثار في آن معا الماركسيين التقليديين القدامى الخائفين من التجديد، والديماغوجيين القوميين والطفيليين الفاسدين وأدعياء laquo;الليبراليةraquo; اليمينيين الذين شجّعوه على تسريع هدم الضوابط المتآكلة للنظام. وعلى الأثر بذل الماركسيون التقليديون محاولتهم الأخيرة لإنقاذ إرثهم فكانت المحاولة الانقلابية الفاشلة، التي انتهت بمنظر بوريس يلتسين laquo;عميدraquo; الديماغوجيين والفاسدين، على ظهر دبابة، معلنا نهاية النظام السوفياتي.. ومفتتا الكيان الذي توهّم غورباتشوف بغبائه وغروره أنه يسعى إلى المحافظة عليه عبر تجديده.

اليوم نحن أمام مشهد مقلوب تماما. الاقتصاد الأميركي في ورطة، وفي البيت الأبيض رئيس طيّب النية، سليم الطوية، قرّر سلفا الانكفاء إلى الداخل والامتناع عن خوض أي مواجهة مهما بلغ حجم التحدي لواشنطن. وفي المقابل يقيم سعيدا في الكرملين laquo;قيصرraquo; روسي جديد متشدّد يفهم العقل الغربي جيدا منذ أيام عمله الاستخباراتي في ألمانيا، وهو يتوق للثأر من إذلال أميركا بلاده في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وهو اليوم يتفنّن في ابتزاز واشنطن الجانحة إلى السلم بأي ثمن.

ما هو التفسير المنطقي لهذا الواقع الذي يقلق عددا من شعوب دول المنطقة.. في مقدمهم الشعب السوري وشعوب دول الخليج ونسبة لا بأس بها من أبناء الشعب المصري قلقة من laquo;أخوَنةraquo; النظام والمجتمع؟

ثمة تفسيران لا ثالث لهما؛ الأول أن واشنطن بدأت في عهد أوباما مسيرة ترهّل يشبه ترهل موسكو في عهد ليونيد بريجينيف والعهود التالية حتى انهيار التجربة السوفياتية عام 1989. والثاني أن واشنطن - المتحالفة استراتيجيا مع إسرائيل - ضالعة حقا في مشروع إعادة رسم خريطة المنطقة بالتراضي والتفاهم الضمني مع إيران، وداعمها التكتيكي روسيا.

أي كلام آخر بعيد جدا عن فهم ما يحدث في المنطقة.