عبدالعزيز حمد العويشق


بعد استقالة البابا، كيف سيُحسم الصراع بين المتشددين والمجددين في الانتخابات الدائرة حاليا لاختيار البابا الجديد؟ وهل ستسعى القيادة الجديدة إلى رأب الصدع الذي أحدثه البابا واستعادة روح الحوار مع المسلمين؟

كان حدثا مدويا يوم الخميس الماضي quot;28 فبرايرquot;، حينما قدم البابا بنديكتوس استقالته، فلم يسبق أن استقال بابا الكنيسة الكاثوليكية منذ أكثر من 600 عام، كما يقول مؤرخو الكنيسة. ومع أهمية هذا الحدث، فإنني أريد أن اتحدث على وجه الخصوص، عما تم خلال عهده من تراجع في الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، خاصة المسلمين، وماذا يمكن أن نتوقع في عهد البابا القادم.
فمع بدايات عهد البابا بنديكتوس السادس عشر، بدأ البابا في تحديد مسار سلبي في علاقة الفاتيكان بالمسلمين، في محاضرة ألقاها في سبتمبر 2006، في مدينة quot;ريجنزبرغquot; بألمانيا، وأظهر فيها فهما سطحيا وقاصرا عن تاريخ الإسلام وتعاليمه.


ففي تلك المحاضرة، اعتمد البابا على نص من القرن الرابع عشر، منسوب إلى أحد أباطرة بيزنطية، يتضمن عبارات مسيئة عن الإسلام، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. وانطلق البابا من ذلك النص ليتهم المسلمين بنشر الإسلام بحدّ السيف، وعدم التسامح مع من اختلف معهم، مدّعيا أن ذلك من صميم عقيدتهم. وبالطبع لم يكن أي من تلك التهم صحيحا، كما أوضحه في حينه مؤرخون منصفون انتقدوا البابا، وأوضحوا جهله بحقائق التاريخ. وكما نذكر، كانت هناك احتجاجات عاصفة في العالم الإسلامي ضد ما ادعاه البابا، وإدانة من قبل قادة الدول الإسلامية وغيرهم.
وكانت مفارقة مدهشة أن ينتقد رئيس الكنيسة الكاثوليكية ما ادعاه من عدم تسامح المسلمين، وعدائهم للعلم والعقل خلال تاريخهم حسب زعمه. فمن المستحيل أن يكون خافيا عليه ـ وهو الأكاديمي العريق قبل أن يدخل خضم المناصب الدينية ـ تاريخ الحروب الدينية، التي خاضتها الكنيسة ضد من اختلف معها من المسيحيين والمسلمين وغيرهم، مثل الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، وحرق العلماء والمعارضين أحياء في الساحات العامة. وكانت تلك المآسي تحدث تحت سلطة الكنيسة في العصور التي كان المسلمون خلالها يشجعون العلم والابتكار، ويُبدون تسامحا نادرا، في تلك الأيام، مع من خالفهم، بما في ذلك المذاهب المسيحية الصغيرة، التي عاشت في البلاد الإسلامية، وبقيت إلى يومنا هذا، في حين قُضي عليها في المناطق التي كانت تحت نفوذ البابوية.
ومع أن البابا قد اعتذر عن تلك العبارات المسيئة للإسلام، إلا أن الفاتيكان تحت قيادته استمر في نقض ما أنجزه سابقوه من تقارب وحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والأديان والمذاهب الأخرى. فقد أصبح واضحا للكثيرين فيما بعد أن ما قاله البابا في تلك المحاضرة لم يكن مجرد سقطة أكاديمية، ولكنه تعبيرعن عداء عميق تجاه الإسلام، كان محسوبا للبدء في نقض ما تم إنجازه في الحوار الإسلامي - المسيحي خلال عدة عقود، وهو حوار أدى إلى تحسن ملحوظ في العلاقات المسيحية الإسلامية.
واتضح كذلك أن تقليص الحوار مع المسلمين، لم يكن سوى جزء يسير من مشروع أكبر يهدف إلى نقض الإصلاحات الكبيرة، التي أقرتها الكنيسة الكاثوليكية فيما أصبح يسمى بـquot;الفاتيكان الثانيquot; خلال المدة quot;1962-1965quot;، وهي أهم إصلاحات في تاريخ الكنيسة الحديث، غيّرت إلى حد كبير طبيعتها، وتوجهها، وعلاقاتها مع العالم الخارجي. وساهمت تلك الإصلاحات في رأب الصدع داخل المذهب الكاثوليكي، وبدء الحوار مع المذاهب المسيحية الأخرى، ومع الديانات الأخرى، وأهمها الإسلام الذي ناصبته الكنيسة العداء لمئات السنين.
وكجزء من تلك الإصلاحات، تبنت الكنيسة quot;عقيدةquot; جديدة طورت اللاهوت الكاثوليكي، وخلصته من بعض رواسب القرون الوسطى، وأبدت شيئا من التسامح نحو الحركات التجديدية، مثل quot;لاهوت التحريرquot; الذي نشأ في أميركا اللاتينية. وسمحت تلك الإصلاحات، على سبيل المثال، بأداء المواعظ الدينية باللغات المحلية، مثل الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، بدلا من اللاتنينية، وبتحديث مواضيعها.
وصدر عن quot;الفاتيكان الثانيquot; وثائق عدة أصبحت المرجع الجديد للمذهب الكاثوليكي. وما يهمنا منها هنا وثيقتان، إحداهما بعنوان quot;إعلان عن علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحيةquot;، وضعت الأسس الدينية للحوار من وجهة نظر الكنيسة. والوثيقة الأخرى، بعنوان quot;الدستور العقائدي للكنيسةquot;، أشارت بصفة خاصة إلى الإسلام والمسلمين بإيجابية، وأوردت الأوجه الكثيرة للشبه والتقارب مع الإسلام في العقيدة ومبادئ الأخلاق. ولا تنكر الوثيقة أنه quot;على مر القرون كانت هناك خصومات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمينquot;، ولكنها تدعو أتباعها إلى quot;نسيان الماضي والسعي لتحقيق التفاهم المتبادل والعمل معا لمصلحة الإنسانية، لتحقيق العدل الاجتماعي ومكارم الأخلاق والسلام والحريةquot;.


وبعد هذا التحول الذي مرت به الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت quot;1962-1965quot;، بدأ الحوار مع المسلمين، وخرج بعد مدة بنتائج إيجابية ساهمت في إرساء حوار أوسع بين أتباع الأديان والحضارات المختلفة، وتم تأسيس مراكز تتخصص في ذلك الحوار، كان آخرها quot;مركز الملك عبدلله للحوار بين أتباع الأديان والحضاراتquot;، الذي أسسته المملكة العربية السعودية في مدينة فيينا العام الماضي، بالتعاون مع جمهورية النمسا وإسبانيا.
ولكن إصلاحات الفاتيكان الثاني، لم تحظ بالقبول لدى المتشددين، الذين رأوا فيها انحرافا عن أصول المذهب، وحاول بعض قادة الكنيسة التراجع بهدوء عن بعض تلك الإصلاحات، ولكن البابا بنديكتوس سعى، منذ توليه المنصب في عام 2005، إلى نقضها بالكامل، تدريجيا وبصفة منظمة. ومع أن أكثر الخلافات بين رجال الكنيسة تخص المذهب الكاثوليكي، إلا أن لبعضها تأثيرا على العلاقات مع المسلمين، ولم تكن كلمات البابا المسيئة لهم في عام 2006 سوى أكثر التعبيرات علنية عن موقف الكنيسة الجديد نحو الإسلام.
ويتضح من تعليقات خبراء الكنيسة حول البابا بنديكتوس، قبل استقالته وبعدها، أن الصراع بين معسكري المحافظين والمجددين أبعد ما يكون عن الحسم. إذ يسعى كل منهما إلى فوز مرشحه في انتخابات البابا الجديد، إذ بدأ أعضاء المجمع الانتخابي في التقاطر هذا الأسبوع على مقر الفاتيكان للاتفاق على مرشح جديد.
وسيكون من المهم معرفة ما إذا كانت القيادة الجديدة للكنيسة ستسعى إلى الحوار مع المسلمين، أم تستمر في نهج بنديكتوس في التقوقع والابتعاد عن الأديان والمذاهب الأخرى.