بيروت- ريتا فرج

يتميّز الحوار مع المفكر اليساري صادق جلال العظم بنبرة ثورية مشاكسة تضفي مزيداً من الوهج على مفاصل المقابلة.
لم يكن صاحب الأطروحة الشهيرة laquo;نقد الفكر الدينيraquo; يوماً خارج السرب الثوري، وتاريخه مع الحراك السياسي والفكري يشهد على ذلك. وما ان تفجّر ربيع سورية حتى أعلن العظم تأييده للملحمة الدمشقية، كأنه أدرك منذ البداية أن السوريين يريدون استعادة نظامهم الجمهوري، بعدما استولى عليه البعثيون، ولطالما شدد على هذه النقطة أكثر من مرة.
دائماً يقدّم العظم في حواراته الشائكة أفكاراً جديدة، فهو لا يحبذ السير على الخطى السابقة، فتجده يتحدث عن laquo;إسلام التوتر العاليraquo; وعن laquo;الجهاديين الجوالينraquo; وعن laquo;مشاة الثورةraquo;. وحين تجالسه تشعر أنك أمام قوة شبابية لم يؤثر فيها مرور الزمن الذي يخون الجسد وليس العقل.
لا يبدو صاحب laquo;ذهنية التحريمraquo; شديد التفاؤل بالحل السياسي في المدى المنظور لكنه مقتنع بأن laquo;الأبَد السوريraquo; انتهى دون رجعة. يلوم بعض أطياف المعارضة لا سيما laquo;الائتلافيينraquo; على تخبطهم، ويؤكد أن الرئيس السوري بشار الأسد ماضٍ في نهجه حتى النهاية وقد تحوّل الآن الى laquo;محافظ على دمشق الصغيرةraquo;.
يرى أن laquo;الاسلام الشعبيraquo; السوري سيقلّم أظافر laquo;الجهاديينraquo; الطالبانيين ويعتقد أن غلبة الإسلاميين في مصر وتونس في حال وصل السوريون الى صناديق الاقتراع لن تتكرر بالزخم نفسه في سورية.
أسئلة كثيرة يمكن طرحها على العظم في اللحظات المفصلية التي تمرّ بها سورية رغم حال الستاتيكو الذي يسيطر عليها. فماذا يقول عن الثورة مع دخولها عامها الثالث وكيف يقارب أزمتها الدولية والإقليمية؟
bull; بعد مرور عامين على الثورة السورية. هل أنتم متفائلون بمستقبل الثورة رغم التعقيد الكبير في أزمتها؟
- لا أعتقد أن كلمة تعقيد أزمتها توحي بهذا الحجم من الانكماش والسلبية لأن الملف السوري ليس مغلقاً الى هذه الدرجة، وما يجري هو نتيجة الفرز الدولي والاقليمي الذي له أسبابه السياسية. يمكن أن نقارب الثورة السورية بشكل بسيط جداً: نظام عسكري أمني يستند الى عصبية طائفية قوية مدعوم من إيران وروسيا وlaquo;حزب اللهraquo; يواجه أكثرية شعبية ثائرة تتعرض لشتى أنواع العنف والقصف.
أعتقد أن الانجاز الكبير للثورة يتمثل في تحدي نظام يعتقد أنه لا يُقهر، وهذا النظام يقدّم نفسه كما لو أنه قطعة غرانيت صلبة كل مَن يتصدى لها يتفتت. النظام السوري خسر خلال العامين الماضيين قوته القاهرة وأصبح بشار الأسد الآن محافظاً لدمشق الصغيرة.
ومع سقوط النظام السوري نكون قد شهدنا سقوط آخر نظام سياسي عسكري تأسس على الطريقة السوفياتية في المنطقة، وتالياً فإن انتهاء النظام يعني أن الشعب السوري استرجع الجمهورية من السلالة الحاكمة. وثمة نقطة مهمة أريد الاشارة اليها وهي انه بعدما دخلت ايران وlaquo;حزب اللهraquo; والعراق على خط التدخل العسكري الميداني تأجج الصراع السنيّ - الشيعي على مستوى المنطقة واتخذ في الداخل السوري طابعاً سنياً علوياً.
bull; كيف تقاربون تعاطي المعارضة السورية بمكوّناتها كافة مع الثورة السورية خلال الفترة الماضية؟
- أرى أن المعارضة السياسية في الخارج متعثرة ومتخبطة كثيراً، وهذا التخبط والتعثر لا يفاجئني لأن سورية بعد استيلاء البعث على الحكم سيطرت عليها فكرة توحيد الشعب كله وراء قائد واحد وخط واحد ونهج واحد وحزب واحد، وحين انهارت هذه الأسطورة فمن الطبيعي أن يتجه السوريون الى ما هو معاكس ويميلون الى التنوع والاختلاف والتعددية السياسية. هذا التخبط الذي اشرت اليه عند المعارضة السياسية لا يؤثر في الحراك الميداني الداخلي ومكوّناته، وهو الأكثر تماسكاً وصلابة. بعض أسباب التعثر في المعارضة السياسية لها علاقة بالقيادة وثقافة الزعامة، وبعض الأشخاص من الذين يتبوأون مناصب يتصرف من دون وعي سياسي، أي أنهم يتعاملون مع الآخرين كزعماء وليس كقادة يتشاورون داخل مؤسسات المعارضة.
* الى ماذا سيفضي الصراع الاقليمي والدولي على سورية؟
- لن يفضي الصراع الدولي والاقليمي على المدى البعيد الى شيء لأن الثورة السورية حسمت وضع النظام والسلطة. يتكيف الصراع أكثر فأكثر مع طبيعة الثورة والحراك الثوري وهو الذي سيحدد نوعية الاستجابة الدولية والإقليمية.
bull; هل يمكن القول إن الثورة السورية هي في الواقع ثورة المناطق الطرفية/ الريفية الفقيرة أي تلك الفئات المجتمعية التي كانت تشكل قاعدة حزب البعث؟
- وضع حزب البعث نفسه في موقع الدفاع عن العمال والفلاحين وهذه الفئة هي التي ثارت عليه، ويجب ألا ننسى دور المدينة في الحراك الميداني السلمي لا سيما في مراحله الأولى. ليس الفقراء والمهمَّشون وحدهم من قاد الثورة، كان هناك أطباء ومهندسون وصيادلة وأساتذة ومدرسون، وكان هناك كتلة مدنية في أوساط التجار شاركت في الاحتجاج بطريقة مكشوفة.
ثمة العديد من العوامل الاقتصادية المؤدية الى تحريك الثورة، نذكر منها الجفاف الذي ضرب الجزيرة منذ سنوات ما أجبر مجموعة من السكان الى الهجرة باتجاه أطراف المدن، وآنذاك تعاملت الدولة بمنتهى اللامسؤولية مع هذا الوضع. وخلال فترة شهر العسل بين تركيا والنظام صدرت جملة من القرارات الاقتصادية غير المدروسة أضرّت بالصناعة السورية لا سيما في القطاع الذي يستقطب الحرفيين والصناعيين الصغار وصغار الكسبة وهؤلاء ينتشرون في حواضر الأرياف المحيطة في المدن.
bull; هل تخشى من سيطرة الاسلام السياسي على الثورة السورية في حال سقوط النظام؟
- إذا وصلنا الى صناديق الاقتراع، لا أعتقد أن الطريقة المصرية أو التونسية يمكن أن تتكرر في سورية، علماً أن اكتساح الاسلاميين للمشهد السياسي في مصر وتونس عن طريق الانتخابات أفضى الى ايجاد معارضة شعبية وحزبية ونخبوية ضدهم، وهذا يعني أن التجربتين أمام سيناريو معقّد قد يؤدي الى تأجيج الصراع الاسلامي الليبرالي على السلطة.
إذا نجح الاسلاميون في مصر فقد يتجهون الى إقامة إسلام سياسي سني على طريقة الاسلام السياسي الشيعي في ايران، ولن تتكرر هذه التجربة عندنا بسبب التنوع السوري على المستويات السياسية والاثنية والدينية. ما نشهده الآن في سورية يمكن أن نطلق عليه مصطلح laquo;إسلام التوتر العالي الجهاديraquo; الطالباني والأصولي وهذا التيار سيتراجع مع عودة الإسلام الشعبي العفوي أي ذلك الاسلام الذي يقتصر على العبادات والمعاملات.
bull; هل تعتقدون أن ملامح التسوية الروسية - الأميركية تشكل مفتاح الحل للأزمة السورية؟
- لا أفضّل أن أطلق عليها مفردة تسوية وإنما هناك بين الطرفين اتفاق ضمني على ما يمكن أن أسميه laquo;الغموض البنّاءraquo; وخصوصاً إذا قاربنا هذه التسمية من تشكيل حكومة انتقالية تتمتع بصلاحيات كاملة. الروس لم يصلوا بعد الى مرحلة الضغط على بشار الأسد كي يتنحى في حين أن الأميركيين لا يريدون أن يكون الأسد جزءاً من المرحلة المقبلة.
bull; الى أي مدى يمكن الرهان على العقلاء داخل حزب البعث كجزء في العملية الانتقالية؟
- العقلاء في البعث إما انشقوا وإما قُتلوا وإما طُردوا ومن بقي منهم يمارس لعبة الصمت. إذا راقبنا خطاب البعث خلال العامين الماضيين لا نجد أن شيئاً تغير أو تبدل، اللغة الخشبية السياسية نفسها ما زالت تُستعمل منذ أربعين عاماً، وهذا يعني أنهم لم يتكيفوا مع التحولات الهائلة لأنهم في الأساس غير مقتنعين أنهم سيكونون يوماً ما خارج السلطة.
bull; هل تؤيدون وجهة النظر التي تقول إن واشنطن أطلقت يد روسيا في سورية؟
- لا أوافق الرأي الذي يقول إن أميركا أطلقت يد روسيا في سورية، فلا يوجد شيء اسمه إطلاق يد، هذه التجربة عرفها لبنان خلال الوصاية السورية ولن تتكرر في سورية لأن الظروف مختلفة. الأميركيون أكثر قدرة على التصرف والتحرك وقد حسموا موقفهم بشأن بشار الأسد ولا يريدون أن يكون له دور في المرحلة الانتقالية. ما يحدث أن هناك ثورة شعبية حقيقية تعارضها روسيا وتضع العراقيل في طريقها في حين أن الولايات المتحدة تتصرف بشكل معاكس رغم الهدوء الذي يسيطر على مقاربتها للملف السوري.
التنحي ويؤكد أنه سيرشح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة. على ماذا يستند الأسد؟
- أخشى عليه إذا بقي في سورية وترشح الى الانتخابات من أن يسقط. بشار الأسد من الشخصيات التي تعتبر نفسها فوق البشر ومن أنصاف الآلهة وهو في هذه الصفة يتماثل مع شخصية صدام حسين ومعمر القذافي، فهل هو قادر اذا لم يغادر منصبه على النزول للشارع وخوض الحملة الانتخابية؟ ترشحه للانتخابات الرئاسية محض أوهام وهو يستفز السوريين حين يؤكد أنه باقٍ في السلطة وسيرشح نفسه لدورة رئاسية جديدة.
bull; ثمة وجهة نظر تقول إن الولايات المتحدة تتراجع في المنطقة لصالح تكتل استراتيجي متعدد الرؤوس أي ايران وتركيا وقطر والسعودية وربما مصر. إذا صحت هذه الفرضية هل يعني ذلك أن الحل السياسي في سورية سيمرّ بتسوية إقليمية؟
- لا اوافق على هذا الطرح إذ لا يمكن أن تتراجع الولايات المتحدة في المنطقة لمصلحة دول ضعيفة لديها مشاكلها الداخلية والخارجية. إيران وتركيا والسعودية ومصر، هذه الرؤوس إذا تمّ جمعها غير قادرة على ملء الفراغ.
bull; يرى البعض أن الأزمة السورية قرّبت المسافات بين laquo;القاعدةraquo; وبعض الأنظمة العربية التي تريد إسقاط النظام السوري وذلك وسط الحديث عن دخول أعداد كبيرة منها الى سورية. هل تؤيد هذا الطرح؟
- أرى العكس. حركة laquo;القاعدةraquo; اليوم أقرب الى إيران منها الى الأنظمة العربية. وحين تعرّضت بعض الدول العربية لضربات laquo;القاعدةraquo; كالسعودية على سبيل المثال أصبحت المساحة بينها (السعودية) وبين الولايات المتحدة قريبة. أعتقد أن واشنطن والأنظمة العربية متفقون على الحد من تسلل الجهاديين الجوالين الى سورية، ومَن يستفيد من هؤلاء هي ايران. وحتى لو اعتبرنا أن هؤلاء يتم دعمهم من أنظمة عربية فهم لن يشكلوا خطراً في المدى البعيد، لكونهم من جنسيات مختلفة. ولكنني أتخوف من تأثير الجهاديين الجوالين على بعض الفئات الشبابية السورية، وهذه الفئات قد تنجذب الى المزاج الاسلاموي الطالباني المتشدد أي إسلام التوتر العالي كما أشرتُ سابقاً، وحتى يستعيد الاسلام الشعبي السوري حضوره أعتقد ان من الممكن احتواء هؤلاء الجهاديين السوريين.
bull; هل أنت متفائل بحل سياسي يُخرج سورية من أزمتها؟
- لست متفائلاً بالحل السياسي. بشار الأسد لن يتراجع ولا يريد الخروج من السلطة ويرفض أي حل ولن ينظر الى أحد. الأسد سيبقى يظن نفسه منتصراً الى أن تصل الثورة الى باب قصره ولعل هذه الجملة التي أطلقها السفير الأميركي في سورية روبرت فورد تنطبق بشكل حرفي عليه.