شوقي بزيع


لا يمكن للمرء إلا أن يحس في فمه طعم الرماد، وهو يشاهد بأم العين الدمار الهائل الذي يحيق بالمدن والقرى السورية، بعد مرور سنتين على اندلاع الثورة. صحيح أن الحرية والكرامة ليستا منحة مجانية تقدم للشعوب على طبق من ذهب، ولكن الصحيح أيضا أن أحدا لم يتوقع أن يكون ثمنهما باهظا إلى هذا الحد، وأن تتكرر في سوريا المشاهد المفرطة في مأساويتها التي شهدتها بلدان مماثلة خلال الحروب الأهلية أو الحروب الكونية الكبرى.

تبدو المدن السورية من هذه الزاوية شبيهة بأبطال الملاحم الذين يتقدمون واحدا بعد الآخر إلى ساحة المواجهة، أو يتناوبون على الموت فوق حلبات لا يكاد ينحو من هولها أحد.حين اندلعت الثورة قبل سنتين، في ضوء الشرارة التي حولها جسد البوعزيزي المحترق إلى نار هائلة في غابة الإذعان العربي، لم يكن أحد يتوقع أن تأخذ الأمور هذا المنحى الدموي والتدميري غير المسبوق، ولم يكن ليدور في حسابات الشعب السوري المهان منذ عقود أن نظامه الجائر سيصبح خطا للتماس بين كافة قوى العالم المتصارعة. ذلك أن انضمامه إلى ركب الثورات كان يتخطى حسابات المراهنين على موقع بلاده الحساس والمفصلي، ليتصل بحقه في الحرية والعيش الكريم، وفي تداول السلطة ووضع صوته داخل صناديق للاقتراع قابلة لتنوع الآراء وتعدد الخيارات. ورغم أن نموذج laquo;حماهraquo; التي ذبحها النظام نفسه من الوريد إلى الوريد قبل ثلاثة عقود لا يزال ماثلا في أذهان الكثيرين وكوابيسهم، إلا أن أحدا لم تذهب به سوداويته إلى الاعتقاد بأن تشبث النظام بسلطته المطلقة يمكن أن يدفعه إلى تأديب كل مدينة laquo;عاصيةraquo; ومحاولة إعادتها إلى بيت الطاعة عبر ترسانة عسكرية ضخمة بدا أنها معدة لدور كهذا وليس لأي دور آخر.كنا نود ــ بالطبع ــ لو لم تأخذ المواجهة بين النظام وبعض القوى والجبهات المناوئة له هذا المنحى الاستئصالي المليء بالفظاعات.

كنا نود لو لم ترفع فوق أرض سوريا المنكودة شعارات عصبية ومذهبية مجافية لروح الثورة الأم وسعيها لإقامة النموذج النقيض لما هو سائد. ولكن وحشية النظام وعنفه المستطير هما من أطلق الوحش الكامن في أعماق البشر المسحوقين من عقاله ورفع الغرائز المستترة إلى سطوح المواجهات.فالثورات ــ على تنوعها ــ ليست طهرانية بالكامل، والشعوب التي تداس بالأقدام وجنازير الدبابات لا بد أن يكسبها تفاقم الجرائم مخالب وأشكالا للدفاع عن النفس لا تكون غالبا في الحسبان.ولن يعني ذلك ــ بأي حال ــ دفاعا عن القتل الوحشي والمجازر المتقابلة، فنحن لا نريد للثورة السورية أن تتماهى مع قيم جلاديها وتعطشهم إلى رائحة الدم.لا نريد للحقد الأعمى أن يقابل بحقد أشد عماء. وإلا تكون الثورات نسخا غير منقحة عن الأنظمة التي تعمل على إسقاطها، نريد للثورة أن تنتصر لا بالسلاح وحده، بل بالأخلاق والترفع ونظام القيم المختلف، خصوصا أن الأرض التي تحتضنها ليست عقيمة أو منبتة الجذور، بل هي مهد للحضارة والعمران والثقافة والمعرفة قل نظيره. كما لا نريد للذكرى القادمة أن تحل إلا في ظل سوريا الجديدة، سوريا المستحقة لحريتها وألقها ودورها الفريد، في عالم لا تتسع جغرافيته للخانعين والضعفاء والمقيمين على هامش التاريخ.