طيب تيزيني

في مثل هذه الأيام قبل عامين منصرمين خرجت جموع الشباب من مختلفي الأعمار وببعض المدن السورية، لنواجه مشهداً متعدد الدلالات، من هذه الأخيرة تبرز دلالتان اثنتان، تقوم أولاهما على الإيحاء بأن ذلك المشهد أوقع بعض الخارجين والمراقبين المدققين في لحظة من الذهول laquo;المستغربraquo;: مَنْ هم هؤلاء الذين يسيرون في الشوارع؟ هل هم من فصيل ما اعتاد الناس أن يروهم؟ جمع من السائرين في laquo;مسيرة شبيبة نسبة إلى منظمة شبيبة الثورة أو شبيبة الأسد، أم في مسيرة طلائعية (نسبة إلى منظمة الطلائع البعثية)؟ أم أن الأمر يحتمل تصوراً آخر، هو laquo;تظاهرة احتجاجيةraquo;؟! وكان على الناس أن يدققوا، حتى وصلوا إلى القول بأنه حقاً laquo;تظاهرةraquo;، ذلك أن هذه الظاهرة بدأت تفقد احتمال ظهورها في سوريا، منذ تأسست الوحدة بينها وبين مصر عام 1958، وبعد تكريسها قانونياً من خلال قانون الطوارئ الذي صور في سوريا بعد الانفصال عن مصر عام 1963.

منذ ذلك العام، كان تكريس القانون المذكور قد جاء نتيجة الانقلاب العسكري، الذي قام به حزب laquo;البعثraquo;. لقد غابت السياسة بعد ذلك حتى يومنا هذا، حيث حلّ محلها نظام أمني استوفى شروطه في سنوات لاحقة، خصوصاً بعد تسلّم السلطة من قِبل حافظ الأسد عام 1970، والآن ومع بداية الانتفاضة الثورية في سوريا، وجد المنتفضون أنفسهم خاليي الوفاض، إلا من حماسة متدفقة تحميها وتطورها منظومة الحرية والكرامة والعدالة، لكن ظهر في سباق الشعارات التي راح يطلقها أولئك، غياب ملحوظ لخطاب سياسي ناضج، ومن أين لأولئك بهذا، بعد أن سحبها ذلك النظام الأمني من المجتمع السوري، وكرّس بدلاً عنها مجموعة مظاهر على رأسها laquo;الرياضة العابثةraquo;، وlaquo;رياضة الكرةraquo;، منها في مقدمتها، بعد أن ألفها الناس: الرشوة وما يتصل بها راشياً ومرتشياً، وغيرها، ولكن قبل ذلك تعميم أجهزة الأمن وجعلها شاملة الحضور والفعل.

واكتملت المسألة مع إفساد دون استثناء، للقضاء الذي تحولت أمكنته إلى مراكز مخابراتية أو ملحقات بمثل هذه المراكز، تُصفى فيها الحسابات مع المواطنين المدانين تحت الطلب. ذلك كله، ومعه ما مر مظاهر الثقافة والتعليم والتحديث، أنتج وعياً بالبؤس والعار والهزيمة، مما جعل الأمر هذا طبيعياً في نظر جموع الفقراء والمفقرين والمذلين والمراقبين الآخذين في التنامي، وإذا كان الوضع قد بلغ تلك الدرجة من اليأس وافتقاد الأمل، فإن سؤالاً كبيراً ومركّباً أخذ يفرض نفسه على الناس بأشكال شتى، من مثل الشكل التالي: هل إن ما يُصيبنا يمثل قدَراً مطلقاً؟ أم إنه قابل للمواجهة، وفق laquo;جدلية العين والمخرزraquo;؟ كان عنصر الشباب، ذكوراً وإناثاً، قد أخذ يتحول إلى حالة تتأرجح بين الأمل في الاستمرار وبين الانكسار أمام أخطبوط laquo;دولة أمنيةraquo; تلتهم الأخضر واليابس، وهنا ظهرت مواقف ساذجة مرة وخاطئة خطِرة أحياناً، مثل ترنيمات وهتافات ذات طابع وطني مدني.

وقد نسجل هنا بعض ما يُفرزه مثل هذه الحال، لتظهر أمامنا صيغة من صيغ الهزل أو الخداع التاريخي، وذلك حين خرج الشباب بشعارات كان النظام الأمني قادراً على اللعب عليها، لو لم يلجأ إلى أسوأ الحلول والرهانات، نعني رهان المواجهة العسكرية المباشرة، لقد استخدم الرصاص، يداً بيد مع رؤية انتقامية متوحشة، وربما كذلك طائفية، فدلل بذلك على غباء تاريخي ونظري ومنهجي فظيع في قسوته، لقد أخطأ في قراءة الحدث، مَسوقاً بوهم تكون في أوساطه، هو التالي: إما الأسد، وإما نحرق البلد، ها هنا نتبين درجة مكر التاريخ السوري، الذي لم يُتح لـlaquo;السياسةraquo; أن تكون على الأقل إحدى رهانات الحل، فحصد ما زرع، ولذلك، فإن المقولة الحاسمة في سلوك النظام الأمني، أكملت ما كان عليه أن يحدث، تعبيراً عن قصوره التاريخي الكارثي الفظيع، أما المقولة فهي هذه التي نعيش سقوطها المدوي راهناً: إن أقل ما يقبل به ذلك النظام الفاشي إنما هو كل الأشياء، فإما هذا، وإما ذاك.

الثورة السورية تجد نفسها، والحال كذلك، أمام مهمات عظمى، خصوصاً في المرحلة القادمة، أي المرحلة الانتقالية، فمهمة إنتاج مجتمع مدني ديموقراطي تدخل في حال التأسيس بعد الدمار الإجرامي، كما تستمر في مرحلة استعادة السياسة كمنظومة ديموقراطية وبرلمانية ناظمة تتحقق بمشاركة الجميع.