مشاري الذايدي

جانب كبير من الاهتمام الذي يوليه العرب لمأساة الشعب السوري، هو لما تمثله سوريا وعيون مدنها الكبرى، دمشق وحلب وحمص وحماه، وغيرها، من أثر في وجدان الثقافة العربية والإسلامية.

إنه ليس مجرد اهتمام أخلاقي ومعنوي مع المأساة اليومية لناس laquo;الشامraquo;، مع توفر هذا الأمر، لكنه تضامن مع الذات والذاكرة والوجود نفسه.

اللغة والأشعار، والأمثال، والفرق، والفقه، واللاهوت، للشام فيها نصيب كبير وغزير.

التاريخ والوقائع والفصول، والمعارك، والشخصيات، اليرموك، الأردن، مؤتة، حطين، عين جالوت، ميسلون، كلها شام.

صلاح الدين، نور الدين، النووي، ابن قدامة، ابن تيمية، ابن عربي، المعري، ابن عساكر، مكحول، الأوزاعي، ياقوت، أبو تمام، سيف الدولة، ومعاوية وهشام وعمر بن عبد العزيز، كلها أسماء منقوشة على جدران الهوية العربية والإسلامية.

لا تستهن بما تمثله هذه القيم والمجازات من تأثير وتحريك للعاطفة، فالعاطفة، في نهاية الأمر، هي وقود كل حركة وانطلاق.

جلت في بساتين الذاكرة الشامية، وفاح علي ياسمينها، وأنا أجيل النظر في كلام وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، الذي نشرته الصحف الأردنية مؤخرا خلال لقائه لجنة الشؤون العربية والخارجية في مجلس النواب، الأحد الماضي، حيث قال إن الأردن: laquo;يحاول جاهدا الإبقاء على شعرة معاوية مع نظام الرئيس السوري بشار الأسدraquo;.

ذكرني كلام الوزير الأردني هذا حول شعرة معاوية، والإبقاء عليها مع بشار دمشق، حيث كان يشرف معاوية على دولته الأموية الكبرى، بكلام سابق للناطقة باسم بشار، الوزيرة بثينة شعبان، قالته في(يوليو/تموز 2011) على laquo;بي بي سيraquo;، مهاجمة أميركا، وتحديدا سفيرها في دمشق، بعد زيارة قام بها السفير، في حينه، لحماه، المدينة المنكوبة بجرائم الأسد. وبعدما هاجمت بثينة السفير الأميركي، كما هو مطلوب منها، تذكرت فجأة شعرة معاوية، مع الأميركان فقط! واستدركت: laquo;إن سوريا لا تريد قطع شعرة معاوية مع الإدارة الأميركيةraquo;، وعلق عليها في حينه الزميل طارق الحميد في مقاله.

معاوية، الذي يتحدث الجميع عن شعرته الشهيرة، شعرة الدهاء والحلم، والأناة، لا علاقة له بمن يحتل كرسيه في دمشق الآن، لست أتحدث عن الجانب الديني والنزاع العميم القديم بين الشيعة والسنة، فهذا نقاش لا طائل منه، خصوصا في الصحف والشاشات، بل أتحدث عن الجانب الذي جعل معاوية رمزا من رموز الحصافة السياسية، وحسن التدبير. ومدونة سياسية سابقة لكتاب laquo;الأميرraquo; الشهير.

بشار الأسد عكس معاوية تماما، رغم أنه لم يخض من الصعاب ما خاضه معاوية، بل أتى الحكم إلى بشار باردا سهلا سائغا، وأتى معاوية على المركب الوعر، والطريق العسر.

بشار آثر القتل والعنف والصلف والانتقام، منذ أصر على التمديد laquo;الغبيraquo; لتابعه إميل لحود في لبنان، رغم توفر مرشحين كثر يقومون بنفس المهمة، لكنه عاند بغرور وغباء، وكان هذا العناد فاتحة الشر عليه، بصدور القرار الأممي الشهير ضد وجوده في لبنان، وهو ما عالجه بحمق آخر أعظم وأفدح من الأول، بتفجير زعيم السنة والمعارضة اللبنانية كلها، رفيق الحريري، في مشهد دموي غرائزي، أتى على البقية الباقية من شرعية وجوده في لبنان، ثم واصل مسلسل العناد والغرور في العراق والخليج ولبنان والأردن، ونسج تحالفات كلها أحكمت ربط المشنقة على عنقه، وما زال laquo;يبدعraquo; في كسب الأعداء وخسارة الحلفاء.

بينما معاوية كان ماهرا في كسب الأعداء والخصوم، وترسيخ ولاء الموالين له، وكان يستطيع بأسهل الطرق وأيسرها، أن يكسب أعظم المكاسب وأثمنها، كان فعلا كأنما نسج من عقل وحلم وأناة، مع ثبات وإصرار وتصميم على الهدف. ولذلك دخل التاريخ عنوانا لعبقرية الحكم.

تأملوا فقط في هذه اللمحات السريعة عن معاوية، من حكايات وأقوال، كما أتت في كتب التاريخ والتراث.

* قال معاوية لما سئل عن سر سياسته: إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين العامة شعرة لما انقطعت.

قيل له: وكيف ذلك؟! قال: إن جذبوها أرخيتها، وإن أرخوها مددتها.

* قيل لمعاوية، يوم صفين: إنك تتقدم حتى نقول إنك تقبل وإنك أشجع الناس، وتتأخر حتى نقول إنك تفر وإنك أجبن الناس. قال: أتقدم إذا كان التقدم غنما، وأتأخر إذا كان التأخر عزما.

* ولعل هذه القصة تلخص منهج معاوية الصعب في فن الحكم وبعد النظر، فكتب التاريخ تروي أن عبد الله بن الزبير، وكان طامحا للحكم، كارها لحكم بني أمية، غضب على معاوية، وسبب ذلك أنه كان لابن الزبير أرض قريبة من أرض لمعاوية، فيها عبيد له يعملون، فدخلوا في أرض عبد الله، وتشاجر عبيد معاوية مع عبيد عبد الله بن الزبير، وأريق دم عبيد ابن الزبير مما أثار غيظه، فكتب إلى معاوية كتابا لا يخلو من الوعيد والفظاظة: أمّا بعد، فإنه يا معاوية، إن لم تمنع عبيدك من الدخول في أرضي، وإلا كان لي ولك شأن. فلما وقف معاوية على الكتاب، دفعه إلى ابنه يزيد، فلمّا قرأه، قال له: ما ترى؟ قال: أرى أن تنفذ جيشا أَوله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه، فقال: يا بني، عندي خير من ذلك، وأنا لا أريد رأسه فقط بل أريده كلّه، ثمّ طلب أن يحضروا له دواة وقرطاسا، وكتب: وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله، وساءني والله ما ساءك، والدنيا هينة عندي في جنب رضاك، وقد كتبت على نفسي رقما بالأرض والعبيد، وأشهدت علي فيه، ولتضف الأرض إلى أرضك، والعبيد إلى عبيدك والسلام.rlm; rlm;

فلما وقف عبد الله على كتاب معاوية، كتب إليه:rlm; وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، فلا عُدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام.rlm; rlm; فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله، رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه اصفرّ وجهه، فقال له معاوية: يا بنيّ. إذا رُميت بهذا الداء، فداوه بهذا الدواء!

ماذا لو عمل بشار بنصيحة معاوية، وعالج داء laquo;درعاraquo; بدواء الصفح والتسامح، واستلال أوغار الصدور، بل والتنازل وإلانة الجانب؟! لكان في غنى عن هذا كله، لكنه أثبت فعلا أنه بعيد كل البعد عن laquo;مدرسةraquo; معاوية، ولصيق بمدرسة قساة جهلة مروا بأرض الشام مثل قازان التتار.

من أبسط مقومات الحاكم معرفته لمن يحكمهم، معرفة جلية، حتى يستطيع التأثير فيهم، فأنت تحكم بشرا لا حجرا، بشرا لديهم وجدان وثقافة ومفاتيح تلج بها إلى دواخلهم، وكانت هذه المعرفة جاهزة بين يدي بشار، لو قرأ فقط في سيرة عظيم الشام، معاوية الذي يسكن في قصره بالقرب منه.

معاوية والأمويون من بعده كانوا يمثلون نكهة شامية خاصة، أحبها على وجه التحديد، نصارى العرب وبلاد الشام، لأنهم شهدوا في وقتها تسامح الأمويين مع المسيحيين العرب، وهذا مهم تذكره من laquo;مدرسة معاويةraquo; بالنسبة لبعض المتعصبين دينيا في بلاد الشام ضد الأقليات، فقد سلك الأمويون سياسة اتسمت باللين والتسامح مع المسيحيين، كما بينت الباحثة التونسية سلوى بالحاج صالح، في كتابها laquo;المسيحية العربية وتطوراتها من نشأتها حتى القرن الرابع الهجريraquo;. (حسبما عرضت مجلة التسامح العلمية) وتشير إلى العلاقة الخاصة للشاعر الأموي المسيحي laquo;الأخطلraquo; مع الخليفة عبد الملك. في هذه الحقبة ازدهرت الكنيستان اليعقوبية والنسطورية، واتسعت مساحة التعايش بينهما. وكان للتغالبة أبرشيتان.

هذا كان في الماضي، الذي تغنى به شاعر مسيحي لبناني معاصر، في أغنية شدت بها مغنية مسيحية لبنانية، ولحنها ملحنون مسيحيون لبنانيون، أعني قصيدة سائليني يا شآم، للشاعر سعيد عقل، وغناء فيروز، وتلحين الأخوين رحباني. وفيها يقول عقل:

أهلك التاريخ من فضلتهم

ذكرهم في عروة الدهر وسام

أمويون فإن ضقت بهم

ألحقـوا الدنيا ببـستان هشام

أما الآن، فقد ضاعت حكمة القدماء، وأفسد اللاحق ما بناه السابق، وقطع ليس شعرة معاوية وحسب، بل شعوره وسطوره.. ونسي ما هي الشام، وماذا تعني.