خالد الحروب

قرارات القمة العربية في الدوحة يجب أن تشكل نقطة انعطاف حقيقية في مسار الدعم العربي للثورة السورية وتسليحها، بعيداً عن الأجندة الغربية وتحفظاتها وتلكؤها الذي خدم النظام وأنهك الثورة وشعبها. وأهم تلك القرارات يتمثل في فتح المجال أمام البلدان العربية لتزويد الثورة بالسلاح، ونأمل أن يتم ذلك من دون الرضوخ للسقف الذي قد تضعه واشنطن على نوعية السلاح وكميته. والأجندة الأميركية والغربية ومصالحها في سوريا ومقاربتها لثورتها تختلف عن الأجندة العربية ومصالح العرب هناك. وبوصلة المصلحة الغربية في سوريا هي إسرائيل وأمنها ومستقبلها وكيف سيتأثر ذلك بأي وضع جديد تأتي به الثورة بعد انهيار نظام الأسد. أما بوصلة المصلحة العربية في سوريا فترتبط بتحريرها من السيطرة الإيرانية ولجم نفوذ وتوسع طهران الذي يتكرس على شكل هلال يضم العراق وسوريا ولبنان. وعلى الضد من الشعاراتية الأسدية ورطانة خطاب المقاومة فإن سوريا الخاضعة للنفوذ الإيراني أثبتت حسن سلوكها السياسي لإسرائيل وأمنها عبر عقود طويلة، وهي الخيار الأفضل لإسرائيل. وحروب laquo;حزب اللهraquo; ضد إسرائيل التي دعمتها سوريا واستثمرتها في تعزيز خطاب المقاومة ثبت أنها كانت تخدم تكريس النفوذ الإيراني أكثر بكثير مما تخدم مواجهة إسرائيل.

ومن حق الجامعة العربية كمنظمة إقليمية أن تقود سياسة دعم وتسليح جديدة في سوريا، وتتيح لها الأعراف الدولية أن تنتهج السياسة التي تراها مناسبة لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقتها الإقليمية. بل إن تلك الأعراف تشير إلى أن أي صراع إقليمي يجب أن يُصار إلى محاولة حله عبر المنظمات الإقليمية قبل الذهاب إلى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وعلى ذلك تستند الجامعة العربية إلى أرضية قانونية قوية عندما تقرر تبني سياسة واستراتيجية جديدة في دعم الثورة السورية، تحقق المصلحة العربية بعيداً عن المصلحة الغربية، وحتى لو تناقضت معها. ولكن على رغم اختلاف الأجندة العربية ومحددات صنع قراراتها إزاء الثورة السورية عن تلك الغربية فقد خضعت مع الأسف الأجندة العربية لتلك الغربية وخاصة على صعيد تسليح الثورة نوعياً، مما تسبب في تواصل مسلسل الموت الرهيب في سوريا وتدمير الوطن والشعب والبنية التحتية فيه، وإطالة عمر النظام. كما أدى الالتزام الحرفي بالسقف الصارم الذي وضعه الغرب لجهة تزويد الثورة بالسلاح النوعي، وخاصة الذي يحيّد التفوق الجوي ويجبر النظام على وقف استخدام الطائرات، إلى إفساح المجال لقدوم جماعات التطرف القريبة من laquo;القاعدةraquo;، وتديين الثورة وتطييفها.

وهكذا وبعد مرور أكثر من سنتين على اندلاع الثورة السورية هناك أمل في أن يترك الموقف العربي، والخليجي على وجه التحديد، من تلك الثورة الحالة المفارقة والغريبة التي التزم بها وهي التأييد القوي مع الدعم غير الفاعل. والتأييد القوي يُترجم سياسياً، ودبلوماسياً، وإعلامياً، وإنسانياً. أما الدعم غير الفاعل فيُترجم من خلال التردد الكبير والتباطؤ في تقديم العون العسكري والنوعي الذي يؤدي إلى تغير موازين القوى على الأرض بين الثورة والنظام. في مرحلتها الأولى بدت الثورة السورية مشابهة للثورة الليبية في مسارها الإجمالي، حيث الدعم السياسي والدبلوماسي الخليجي، وخاصة القطري، للمعارضة والحركة الثائرة قاد إلى حشد إقليمي ودولي انتهى بدوره إلى تفويض أممي لاستخدام القوة أوقف بطش نظام القذافي وتهديداته بحرق المدن الليبية على رؤوس الثائرين. واستراتيجية القذافي في مواجهة الحراك الشعبي آنذاك تمحورت حول laquo;عسكرةraquo; الانتفاضة الليبية وإنهاء شكلها السلمي تفادياً للسيناريو التونسي والمصري حيث كانت سلمية الانتفاضات هي سلاحها الفتاك. ولذلك أطلق النظام آلته القمعية بكامل ترسانتها ضد المحتجين العزل ومظاهراتهم، وبالتوازي مع ذلك فتح مخازن الأسلحة الخفيفة لهم لجر الحركة الشعبية السلمية إلى الخيار العسكري، الذي يوفر للنظام مسوغ استخدام البطش العسكري الذي أخذ أقصى الأشكال الدموية. وقاد ذلك كما نعلم إلى حلقات متتالية من التطورات أفضت إلى التدخل الأممي العسكري.

واستراتيجية النظام السوري في قمع الثورة منذ بداياتها تشابهت مع تلك الليبية إلى حد بعيد، وخاصة في مسألة إنهاء جانبها السلمي (الخطير)، مُضافاً إلى ذلك توظيف أقسى درجات القمع ضد أي حراك سلمي بأمل وأده منذ البداية. وقد اعتمد النظام على القبضة البوليسية الدموية التي استهدفت laquo;تلقينraquo; درس لكل من تسول له نفسه الخروج إلى الشارع، بهدف خلق مناخ رعب رادع لا يتيح أي فسحة للاحتجاج. وقد فشلت تلك الاستراتيجية أمام الإرادة المدهشة للسوريين الذين تمسكوا بسلمية ثورتهم شهوراً طويلة على رغم القمع الدموي الذي تعرضوا له. وكان من المُتوقع أن يقود تفاقم قمع النظام إلى تبلور موقف دولي مشابه لذلك الذي تبلور ضد نظام القذافي. ولكن ما حدث على أرض الواقع هو أن الحالة السورية اندرجت في مسار خاص بها، بخلاف كل حالات الثورات العربية الأخرى، وخاصة بعد تلقيها الضربة الكبرى التي تمثلت في الموقف الروسي المتصلب الذي اعتبر المعركة السورية معركته الدولية لإثبات النفوذ وتكريس مكانة موسكو في عالم اليوم -وخاصة في ضوء الغضب إزاء ما اعتبرته موسكو الخديعة الغربية في توسيع التفويض الأممي للتدخل العسكري في ليبيا. وهكذا، وإيجازاً لما صار معروفاً ولا يحتاج إلى إعادة سرد، تسبب الموقف الروسي، وعبر استخدام حق النقض في مجلس الأمن، في إفشال المسار الذي كان من المُؤمل أن يكون الأقل تكلفة والأقصر زمناً، وأدى ذلك بالتالي إلى حشر الثورة السورية في مأزق بالغ المأساوية، ومعه كل داعميها وعلى رأسهم الدول الخليجية. فمن ناحية لا يمكن أن يعوض التأييد المعنوي والإنساني والإعلامي وحتى الدبلوماسي (خاصة مع انسداد المسار الأممي) اختلال ميزان القوى العسكري الكبير في ميدان القتال. فما هو قائم على أرض الواقع في نهاية المطاف تجسد في شكل صراع مسلح غير متكافئ، حيث مجموعات المعارضة التي دُفعت دفعاً إلى استخدام السلاح وجدت نفسها تواجه جيشاً مدججاً وباطشاً ويحظى أيضاً بدعم لوجستي إقليمي (إيران والعراق) ودولي (روسيا والصين). هذه هي المعالم الأساسية للصورة الحالية للثورة السورية، وهي التي جمدت عناصر السياق العام للثورة وأبقت على العنصر الوحيد المتحرك وهو استمرار بطش النظام وتقتيله اليومي للشعب السوري. والسؤال الآن، هل نرى ترجمة لقرارات قمة الدوحة تغيّر من السياق الذي تجمد وتغير مساره؟