سمير عطا الله

اكتشف الفتى مبكرا أن مخالفة النمط ليست بالضرورة صحيحة. كان إلى المائدة مع جميع عائلته عندما خطر له أن يمسك اللقمة بيديه الاثنتين، بدل الواحدة، كما يفعل الجميع. ضحك أشقاؤه. بكت أمه. وقال والده برفق: ما هكذا نتناول الطعام يا بني.

أدرك الفتى أن بعض التجاوز قصور لا شجاعة. وأثقل عليه العمى الخوف من سوء التصرف. وحرم على نفسه الحساء والأرز حتى بلغ الحادية والعشرين. وذات يوم اكتشف شيئا مشابها عند سلفه، بصير معرة النعمان. فقد تناول المعري الدبس قبل أن يذهب إلى تلامذته، فسقط شيء منه على صدره. ولما وصل إلى الصف قال له التلامذة: هل كنت تأكل الدبس أيها المعلم؟ ومن يومها حرم نفسه من أطيب الأكلات لديه.

لا نعرف مدى وعدد النعم التي نعيش فيها وبها كل يوم. كنت كلما تذمرت من نقص ما، أو شكوت من أزمة، تقول لي زوجتي: هذا حرام، فماذا تترك للذين خلقوا بنقص ما في نعم الخلق؟ يصور لنا طه حسين عذاب الأرض عند العميان ثم يمضي في الحياة مكافحا متجاوزا كبار المبصرين. لا يترك اليأس أن يوقفه ولا الكآبة أن تشله. قرأ أكثر من أي مبصر وكتب بأعمق من ذي بصيرة. أما سلفه في معرة النعمان فكان مناضلا نادرا ولكن بمزاج تشاؤمي شديد.

لعله أراد شيئا من أساه لجميع الآخرين بعكس الضرير الصعيدي الذي قرر أنه من حملة المصابيح، وأن الرؤية في الظلام أشد عمقا وأبعد مدى. laquo;لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌraquo;، تقول الآية الكريمة. لا يمكن أن يكون هناك تصوير أدق لأولئك الذين نعيش إلى جانبهم من دون أن ندرك كم هم محرجون بذواتهم. إنهم يخافون طوال النهار وطوال الليل وطوال الحياة أن يثقلوا على من حولهم، حتى لو كان أما. ويعيشون مدى العمر مرتعدين خوفا من أن يفقدوا الكائن الذي هو عيونهم أو عصاهم أو ساعدهم أو رفيق كل الطرقات، خصوصا القصيرة والحميمة منها.

هناك أشياء قابلة للتعويض: ضعف النظر وضعف السمع ونقص الفيتامينات، وهناك أشياء غير قابلة للتعويض. هناك الحرج الكبير. أبو العلاء كان يتناول طعامه في السرداب، لا يسمح حتى لخدمه أن يروه. يتركون له الطعام ويخلون المكان ولا يريدهم أن يروا ضعفه وتسربله بنفسه.

سمع ضرير المعرة تلامذته يوما يتحدثون عن طيب البطيخ في حلب، فأرسل إلى المدينة من يشتري لهم كمية منه. وطلب من خادمه أن يترك له قطعة في السرداب. لكن يبدو أن هذا لم يضعها في المكان المألوف، فظلت هناك حتى فسدت. وعز على أبي العلاء أن يقول ذلك للرجل الذي يعمل لديه. الفتى طه كانت أمه تمنعه من تناول الطعام بيديه، إلى أن تزوج تلك السيدة الفرنسية الأرستقراطية التي قررت أن تتأهل من عربي ضرير، وأول ما فعلت أنها علمته كيف يفك الحصار من حول نفسه.