مأمون فندي


laquo;احذروا انتشار العدوى اللبنانيةraquo;. هذا كان عنوان مقالي في laquo;الفايننشيال تايمزraquo; البريطانية في التاسع من أغسطس (آب) عام 2006، أي في عز حرب إسرائيل وحزب الله. وكانت المقولة الأساسية في ذلك المقال والتي تعيش معنا حتى الآن، هي أن الشرق الأوسط جزء من حالة عالمية تتجه إلى حالة من الانشطار وتشظي الدولة إلى مكوناتها الدنيا (state disintegration)، انهيار الدولة الحديثة لمصلحة الولاءات الدنيا من الدولة التي تقدم الحماية والرعاية القريبة والموثوق بها، مثل القبيلة والطائفة، أو حتى المنطقة، أو الجهة (الصعيد، جنوب لبنان، شيعة، سنة، علويين.. إلخ).

الحالة العالمية ما بعد الحداثية التي تجلت فيها حالة الانشطار هذه، كانت بوضوح في أوروبا هي حالة يوغوسلافيا، حيث تفككت دولة الجنرال تيتو لمصلحة جماعات إثنية أقل من الدولة اليوغوسلافية، مثل الكروات والصرب والبوشناق المسلمين والكوسوفار.. وغيرهم. بعضهم أصبح دولا مستقلة، والباقي ينتظر، كما في حالة الكوسوفار.

في عالمنا العربي، لبنان هو المثال الصارخ، حيث تكون الدولة مجرد غطاء لولاءات، تكون الدولة شيئا أشبه بصاج السيارة (قطعة الصفيح التي تصنع الغطاء الخارجي). ولكن على عكس السيارة التي تعمل بمحرك واحد، لبنان دولة تعمل بمحركات طائفية (سنة وشيعة ودروز ومسيحيين بطوائفهم المختلفة وولاءاتهم الصغرى.. إلخ)، أضعفها محرك الدولة.

ظن العرب ولفترات أنه يمكن احتواء الطاعون اللبناني الضارب في عصب الدولة، وظنوا أنه مرض غير معد، حتى تفاقمت عندهم أعراض المرض، وظهرت جماعات فاعلة غير الدولة، مثل حركة الإخوان المسلمين في مصر، حركات عابرة للحدود استطاعت بعد الثورات أن تتملك جزءا كبيرا من الدولة. والحركات العابرة للحدود التي بدأت مع منظمة التحرير الفلسطينية عرقلت من نمو الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، وأضعفت من مناعتها. بعدها ظهرت حركات مثل حماس، قوضت الحركة الكبرى، كما نرى الآن كيف أن جبهة النصرة في سوريا قوضت قدرات جماعة الإخوان، وكما أن السلفيين والجهاديين في مصر نزعوا الشرعية والهيبة عن جماعة الإخوان.

وفي ذلك المقال القديم أيضا في عام 2006 قلت إن أول من سيعاني من عدوى المرض اللبناني بطائفيته وتمزق أوصاله هي سوريا، ويومها ذهبت بعيدا وقلت إن الطائفية قد تبكر من فكرة إقامة دولة علوية في الساحل وتجعلها ليست بعيدة عن التخيل، وقد يؤدي هذا إلى تمدد الفضاء الشيعي بشكل أوسع، مما يعضد من تطييف النظام الإقليمي برمته، ويهدد فكرة الدولة الوطنية، وندخل في علاقات بين تجمعات عرقية وطائفية، وليس علاقات دولية بين دول.

جزء من هذا التنبؤ كان حقيقيا في تمدد الفضاء الشيعي، فقبل سقوط صدام كان هذا الفضاء يشمل جنوب لبنان وإيران، وتحالفا سوريا - إيرانيا، واليوم تمدد هذا الفضاء ليشمل العراق كدولة كبيرة في المنطقة، مضافا جنوب لبنان وسوريا، هذا إلى جانب التوتر الطائفي في البحرين وأحياء شيعية في مناطق أخرى من العالم العربي.

النقطة هنا هي أننا أمام ما يمكن تسميته بتطييف العلاقات الدولية في المنطقة، وأن المواجهة المصطنعة بين فضاء سني وآخر شيعي باتت قريبة من الحقيقة.

هذا التوصيف المزعوم منذ عام 2006 لم يكن ضربا بالودع، ولكن المنطقة كانت تعاني من دولة حديثة هشة، لم تنجح النخب الوطنية فيها في الانتقال من حالة الطوائف والقبائل إلى حالة الانصهار في كيان وطني.

كانت الدولة ولا تزال حتى في الدول القديمة مثل مصر، هي دولة مدينة، أي أن القاهرة هي صرة الحكم، ومركزية الدولة شيء أشبه بالحالة المغربية المقسومة بين المخزن وبلاد السبا. المخزن مركز الحكم، وبلاد السبا هي نوع من الخلاء.

فشلت الدولة في التغلغل في المجتمع، كما أنه لم تكن هناك شرعية وطنية جامعة غير فكرة الوطنية ومواجهة عدو خارجي، وكلها مع الزمن فقدت الزخم وتراجعت لصالح شرعيات محلية تمثلها القبيلة والجهة والطائفة. والناظر إلى منطقة قناة السويس في مصر، أو إلى الصعيد، يرى بوضوح غياب الدولة المركزية وظهور نعرات جهوية محلية.

ليس هذا هو المدهش في الأمر، الدهشة مصدرها في حالة تقسيم دولة عربية انشطرت إلى دولتين، ولم يتوقف أحد عند المشهد أو يستغرب، وربما أنت، عزيزي القارئ، لا تستطيع تخمينها قبل أن أكتب اسمها في نهاية الجملة، وهي دولة السودان. لم يحس أحد بانشطارها، ولم يحزن أحد، ولا حتى أهالي السودان أنفسهم. أصبح شيئا عاديا أن تنقسم دولة أمام أعيننا ولا نذرف دمعة واحدة. وكما أننا لم نتأثر بتقسيم السودان، يؤسفني القول بأننا لن نتأثر بتقسيم سوريا أو تقسيم العراق.

العراق وسوريا هما أقرب الحالات إلى تلك العدوى اللبنانية التي وصلت ذروتها في تقسيم السودان، وظني أن احتمال ظهور دولة كردية في العراق اليوم هو احتمال أقرب من ظهور دولة فلسطينية. الولاءات الأولية هي المحرك الجديد في سياسات العالم العربي اليوم، داخليا وخارجيا. وما علينا إلا أن ننظر لحالة الجيوش الموازية حتى نفهم هذه النقطة، من جيش حزب الله في لبنان، إلى الجيش الحر في سوريا، إلى جيش الأنبار الجديد في مواجهة جيش المالكي، إلى البيشمركة الكردية التي تحاصر كركوك، إلى حالة مصر وظهور البلاك بلوك وميليشيات الإخوان والجيوش الجهادية في سيناء.. كلها وصفات تفتيت الدولة.

دول الخليج قد تكون الاستثناء، إما لصغر حجم بعضها، مما يجعلها غير قابلة للانقسام أصغر من هذا، أو لأن وجود العائلات الحاكمة في بعضها يشكل ضرورة وطنية وبهذا تصبح الأسر الحاكمة ضرورة وطنية.

ومع ذلك حتى بعض الدول العربية ليست بعيدة عن هذا الطاعون المعدي، وذلك لسببين؛ الأول هو أن حالة الولاءات الدنيا بدأت تصبح حالة عالمية؛ من تفسخ الاتحاد السوفياتي، إلى تقسيم يوغوسلافيا، إلى الهوتو والتوتسي في رواندا، أو القبائل والأقاليم المتنازعة في ليبيا، والأمثلة كثيرة. أما السبب الثاني فهو رغم التيارات الرومانسية في العالم العربي؛ من قومية عربية، إلى إسلام سياسي، فشل العرب في العبور بالدولة من حالة تجمعات عشائرية وطائفية مرصوصة جنبا إلى جنب، إلى حالة الدولة الوطنية المبنية على أساس المواطنة.

وإذا أضفت إلى فكرة الطائفية رؤية الإسلاميين الجدد المتمثلة في فكرة الفرقة الناجية، تكون في هذا وصفة حرب قال عنها توماس هوبز في كتابه العظيم التنين أو لفايثون؟؟؟؟ بأنها حرب الجميع ضد الجميع.

هل هناك من وسائل أو تطعيم ضد هذه العدوى المنتشرة كالطاعون أم أن الوقت قد مضى؟ وهل الثورات العربية هي محرك جديد لمواجهة هذا التفسخ أم أنها عرض لهذا المرض؟

سؤال يحتاج إلى ورشات عمل طويلة للوصول إلى إجابة.