رحيّل غرايبة


اندلعت ثورة الشعب الإيراني عام 1979م واستطاعت أن تطيح بعرش الشاه، الذي يمثل النظام الأكثر قوة في العالم الإسلامي، وكان يمثل العصا الأميريكية في المنطقة إضافة إلى كونه الحليف القوي للكيان الصهيوني، وكانت الثورة الإيرانية مثالاً للثورة الشعبية السلمية، التي تستمد قوتها من سلميتها أولاً، ومن عمقها الجماهيري الفعلي، وكانت الثورة الإيرانية مصدر إلهام للشعوب العربية، ولكل الشعوب المستضعفة في العالم.
استبشرت الشعوب الإسلامية خيراً بهذه الثورة المظفرة، كما استبشرت بها الحركات الإسلامية التحررية على امتداد الكرة الأرضية، وكان يحدوها الأمل أن تكون نصيرة المسلمين المستضعفين ضد المستكبرين، وأن تشكل نقطة استقطاب للعالم الإسلامي كله من أجل البدء بإعادة بناء القوة الإسلامية وأعادة صياغة المشروع الحضاري الإسلامي الكبير، واستئناف دور الأمة الإسلامية في إنقاذ البشرية والمسح على جراح الإنسانية المعذبة.
لقد أخطأت إيران الجديدة عندما أعلنت نفسها نصيرة المذهب الشيعي في العالم، وأخطأت في سياساتها المتبعة في العالم العربي والإسلامي التي تقوم على نشر التشيع، بدلاً من أن تعلن عن نفسها أنها نصيرة الإسلام العظيم بالتعاون مع كل المذاهب ومع كل مكونات الامة الاسلامية .
لقد تعمق التعصب المذهبي بعد الثورة الإيرانية وازداد أواراً وتأججاً، وأينما امتدت الأصابع الإيرانية في أي بلد عربي أو إسلامي أصبحت مصدر قلق واضطراب وفتنة طائفية وزاد منسوب الحقد الطائفي وأصبح خطراً يهدد وحدة المجتمع وأمنه واستقراره.
لذلك نجد أن الفتنة المذهبية على أشدها في العراق واستعرت الحرب بين الشيعة والسنة بعد زوال نظام (صدام حسين) وليس العكس، وزاد منسوب الدم المراق على عتبة التعصب المذهبي، وبدأ مسلسل الاغتيالات والقتل على الهوية المذهبية، وانتشرت ظاهرة تدمير المساجد على نحو لم يحدث مثيل في تاريخ المنطقة السابق، كما نجد أن الأصابع الإيرانية في اليمن والبحرين ولبنان وسورية أشعلت الفتنة على أساس مذهبي، واستطاعت تغيير وجه المعركة وجوهرها، فبدلاً من أن تكون ضد الظلم والطغيان والاستبداد، تحولت إلى حرب أهلية.
كان ينبغي على الإعلام الإيراني أن يكون متميزاً في نزاهته وعدالته والتزامه بمبادئ الثورة الإيرانية العظيمة، فلا يعقل أن يمجد الثورة الشعبية في البحرين، ويصف النظام الحاكم فيها بأنه نظام سفاح وقاتل وبطاش وينتهك الحريات ويعصف بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي المقابل يصف الثورة الشعبية في سوريا بأنها تمرد وتطرف وإرهاب وخيانة ومؤامرة ويصف النظام الحاكم في سورية بأنه نظام المقومة والممانعة ويتغاضى عن كل ما يرتكبه من جرائم وقتل وإبادة بحق شعبه ومعارضيه وكأنه نظام ديمقراطي يحترم الحرية ويقدس حقوق الإنسان!!
هذا الميزان الإيراني المختل، أفقد إيران مصداقيتها، وخسرت تأييد الشعوب العربية والإسلامية، ووقعت في مصيدة ازدواج المعايير، ما أسهم إسهاماً كبيراً في تأخر ولادة المشروع الحضاري الإسلامي الكبير في المنطقة.
كان من المفترض أن مجيء إيران إلى المنطقة أن يسهم في خفض منسوب التعصب المذهبي، وأن تسهم في تماسك الأمة الإسلامية ووحدتها، ولو فعلت ذلك لأصبحت أعظم دولة في منطقة الشرق الأوسط نتيجة التفاف الشعوب الإسلامية حولها، ولكنها خسرت المستقبل نتيجة وقوعها في مصيدة التعصب المذهبي القاتل الذي يفرق الأمة ولا يجمعها، وينفر المسلمين ولا يبشرهم، ويعطل مسار القوة الإسلامية الجمعية التي ينبغي أن تستمد قوتها من التسامح وتجمع الجهود ووحدة الشعوب الإسلامية الملتفة على دينها العظيم الذي يحارب التعصب والفرقة ويقدس الوحدة والأخوة الإيمانية.
إن إصرار إيران على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي والإصرار على احتلال الجزر الإماراتية، والإصرار على دعم الحوثيين في اليمن، وقصر الدعم على الطائفة الشيعية في البحرين والعراق ولبنان والنظام الطائفي في سوريا، والإصرار على معيار الكسب المذهبي، سوف يأتي بآثار عكسية على إيران أولاً وعلى الإسلام كله، وعلى جميع الشعوب الإسلامية، وهو في الوقت ذاته يخدم المشروع الصهيوني الصليبي على المدى البعيد، القائم على إضعاف المنطقة وتفريقها وتمزيقها عن طريق إثارة النزعات المذهبية والعرقية وتأجيجها.