عبدالله السويجي

حفل الأسبوع الماضي بصور لم نر أبشع منها منذ مئات السنين، (رجل) يدعي أنه يقاتل من أجل (الحرية)، يقوم بتقطيع جثة، قيل إنها لجندي سوري، ثم ينتزع قلبه وكبده ويهم بأكلهما . و(رجل) آخر، يقرأ التالي: (حكمت المحكمة الشرعية في جبهة النصرة في المنطقة الشرقية بدير الزور بالقتل على هؤلاء العسكر المرتدين لما قاموا به من مجازر ضد أهلنا وإخواننا في سوريا)، ثم يقوم بإطلاق النار من مسدس يحمله (بيسراه)، على رؤوس 11 شخصاً ادعى أنهم جنود سوريون، وفي رواية أخرى أنهم مؤيدون للنظام السوري .

وفي تداعيات الخبر أن رامي عبدالرحمن، رئيس المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو تابع للمعارضة، قال إن جبهة النصرة نشرت مؤخراً مجموعة تسجيلات فيديو لعملياتها السابقة . وقال إن الرجل الذي شوهد وهو يعدم السجناء في التسجيل، وهو رئيس الجبهة، قتل في مارس/آذار 2013 في معارك مع قبائل محلية في المحافظة .

نستطيع أن نفهم بوضوح أن (الرجل) الذي نفذ الإعدام يدعي أنه يطبق شرع الله الخاص ب(المرتدين)، أي إن كل من يؤيد النظام السوري يعدّ مرتداً ويجب قتله، أما ذاك (الغضنفر) الذي أكل قلب الجندي، في (بطولة) نادرة، فعبرّ عن حقده بطريقته، وبرر له بعض (المعارضين) فعلته بالقول: (إن ما يفعله جنود بشار الأسد أكبر بكثير)، وهو تبرير أعمى .

كثيرون شككوا في الشريطين، بل إن البعض زعم أن فيديو (آكل القلوب) من صنع النظام السوري، حتى يشوه صورة المعارضة، واعتبر البعض الآخر الفيديو (مفبركاً)، ولتخفيف حدة ردود الفعل . ادعى رئيس المرصد السوري أن (فيديو الإعدام) قديم يعود إلى ،2012 وأن (الرجل) الذي نفذ الإعدام قتل في شهر مارس/آذار الماضي، ربما للتوقف عن ملاحقته، بينما (آكل القلوب) لاقى التنديد من الائتلاف السوري، ووعد بملاحقته، وقد يظهر فيديو جديد ينسي الناس هذين الشريطين، وهكذا .

وبغض النظر عن صدق الفيديو من فبركته، إلا أن ما لا يمكن نفيه من قبل أي جهة كانت، عربية أو أجنبية، معارضة أو موالاة، الحقيقة التي تكشف أن الوضع في سوريا انحدر إلى مستوى الكارثة الفكرية والسياسية والعقائدية والأخلاقية، ففي كل حي محكمة تصدر أحكامها بشكل سريع بالموت، ولسان حالها كلسان حال أبو مصعب الزرقاوي الذي كان يقوم بتفجير قنابل وسط المدنيين، وكان يعدّ هؤلاء بالكفاراً، فإن مات أحدهم ولم يكن كافراً فإن الله سيدخله الجنة، وهؤلاء الذين يصدرون الأحكام سيقولون: نحن نجتهد، فإن أصبنا فلنا أجران، وإن أخطأنا فلنا أجر، وإن كان المحكوم عليه مذنباً ويستحق الموت فقد نال عقابه، أما إن كان مظلوماً فمثواه الجنة!

هذا بالضبط ما يُسمى تجيير الدين للسياسة، وليّ عنق الحقائق، وتبرير الإجرام، وكان الأولى بهؤلاء أن يقولوا إنهم بهذه الأفعال يمارسون ترهيب الآخر، ودب الرعب في الجنود، أفضل من الاتكاء على الدين واستغلاله في السياسة والقتل .

إن أخطر ما يحدث حالياً في سوريا وغيرها من البلدان التي تشهد (لوثة جماهيرية) وليس ثورة جماهيرية، هو استغلال الدين لحشد المؤيدين، وهم يعلمون أن 90% من الناس غير مثقفين دينياً، ويركضون وراء الفتاوى ويصدقونها وينفذونها، حتى يمكن لهذه الفتاوى أن تطال استقرار البيوت، فيعتقد أحد الشباب أن أخته كافرة لأنها سافرة، أو أن أباه مرتد لأنه لا يصلي في المسجد، أو أن أمه غير صالحة لأنها تشاهد التلفزيون، فيقوم بتنفيذ الشرع أو الحد عليهم، وقد حدث هذا كثيراً .

الفوضى في إطلاق الفتاوى هي التي ركز عليها الشيخ أحمد الطيب، شيخ الأزهر في حديثة في افتتاح منتدى الإعلام العربي في دبي الأسبوع الماضي حيث أوضح شيخ الأزهر (أن الأمر الذي يقلقنا جميعاً في إعلامنا المعاصر هو برامج فوضى الفتاوى الشاذة والجدال في الدين بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . وهذه آفة كبرى، لبست ثوب الدين ونزلت إلى الناس وحسبوها العلم الذي لا علم غيره، وصادفت منهم قلباً خالياً فتمكنت منهم، وبسبب هذه البرامج انتقلت الخلافات التي كانت هي من سفاسف الأمور وتوافهها، إلى حياة الناس بتأثير الإعلام وانقلبت إلى دين وشريعةٍ وإسلامٍ، بل شكَّلت حدوداً وحواجز بين من يطبقها فيكون مسلماً، ومن يعرض عنها فيكون خارجاً أو على الأقل فاسقاً وعاصيًا ومبتدعاً .

صحيح أن الدين لا ينفصل عن السياسة في كثير من تفاصيل الحياة اليومية، السياسة بمعناها المتصل بفن إدارة شؤون الناس، إلا أنه لا يجوز استغلال الدين للشحن السياسي وتنفيذ برامج تتداخل فيها الأجندات المحلية بالخارجية ويكون ضحيتها وأداتها الناس، كما يحدث الآن في سوريا، حيث أفتى (كبار) المشايخ، بأن من يؤيد نظام الأسد فهو كافر وزنديق، وبذلك وجب الجهاد ضده، بينما (نظام الأسد) هو نظام سياسي وليس ديناً، حتى نحكم على من يواليه بالردة، وبهذا المعنى يتحول الجيش السوري الذي يحارب مع النظام، (وقد يكون مكرهاً على ذلك) مرتداً ويجب الجهاد ضده، وأن الناس الذين يعيشون في الأماكن التي يسيطر عليها الجيش السوري الآن، هم مرتدون وزنادقة، لأنهم لم ينشقوا عنه، ولم يهجروه (ليصبحوا لاجئين تحت رحمة وكالات الغوث والمنح!) .

ما يحدث في سوريا، كما يحللها الخبراء، هو صراع نفوذ دولي، وليس بعيداً عن فكرة (الشرق الأوسط الجديد) الذي نادى به الرئيس الأمريكي بوش الإبن، وهو لا ينفصل عن تصورات المفكرين الغربيين الذين رسموا (خريطة الدم)، بحيث يتم استحداث دول (دويلات) حسب التناغم السكاني والعقائدي والمذهبي، وبالتالي تصبح سوريا ثلاث دول، ومصر دولتين، وليبيا ثلاث دول، بعد أن أصبحت السودان دولتين، واليمن يمنين، ولبنان عشر دول، والعراق ثلاث دول، وهكذا، على الجامعة العربية أن تزيد مقاعدها . وهذا التحليل ليس له علاقة بتأييد النظام السوري أو أي نظام آخر، أو الوقوف ضده، إنما لرؤية الحقيقة التي تقول إن العالم العربي ينحدر شيئاً فشيئاً إلى وادي التناحر والاصطفاف العقائدي والمذهبي الذي يقوده (رجال) جهلة، يتضح شيئاً فشيئاً أنهم ينفذون أجندات لا صلة لها بالديمقراطية أو الحرية، وربما تلبية لحاجة شخصية في إطار تحقيق الذات، فدخول الجنة يمكن أن يتم من آلاف الأبواب، وليس أولها أن يأكل أحدهم قلب جندي، أو يقوم آخر بتشكيل محكمة شرعية وإصدار أحكام بالقتل، في الوقت الذي تستغرق المحاكم سنوات قبل أن تصدر حكماً بالسجن مدى الحياة على متهم، فما بالنا بالحكم بالإعدام .