عمّار علي حسن


هناك عدة عيوب وصمت العديد من المقاربات التي رمت إلى إطلاق الحوار بين الحضارات، وتحسين شروطه، يمكن ذكرها على النحو التالي:

1 - اختلاط الأدوار والقضايا، حيث تتداخل المسائل العقدية مع الفكرية، وتحل الرؤى والتصورات الدينية في وقت يكون فيه النقاش بحاجة ماسة إلى تجنيب ما يختلف عليه، ولا توجد فرصة في تغييره، ولا يحبذ أي من المتحاورين التنازل عنه، وإعلاء ما يتم الاتفاق حوله، وما يمثل قواسم مشتركة بين الجميع.

ولعل مما يزيد الطين بلة أن العديد من هذه الحوارات تُترك لرجال الدين وعلمائه، وهؤلاء ينصب اهتمامهم الأساسي على الدفاع عن المعتقدات والمسالك المذهبية، وتبرئتها مما قد يُلصق بها من اتهامات، وما يلقى عليها من صور نمطية مغلوطة. ولا يعني هذا إبعاد المعتقد الديني عن الحوار برمته، وإنما تخصيص مسارات له، تساعد المجرى الرئيسي للحوار الذي يجب أن ينصرف إلى القضايا الثقافية والمصالح المتبادلة في المجالات كافة.

2 - التوظيف السياسي لفكرة quot;حوار الحضاراتquot; من قبل الدول الكبرى، فالسياسة تشكل جوهر الصراع الحضاري المزعوم، بل إن إمعان النظر في طبيعة الصراع الدولي الراهن، أو السابق، وربما اللاحق، يكتشف خلفياته للوهلة الأولى. وفي حقيقة الأمر, فإن quot;الحضارات لا تتصادم، وإنما تتصادم القوى السياسية والاقتصادية النافذة في حضارة من الحضارات مع قريناتها في حضارات وثقافات أخرىquot; كما يقول جميل مطر، والصراعات السياسية في حد ذاتها باتت من السمات والصفات والطبائع المستمرة لدى الكيانات البشرية، عائلات أو عشائر، أو دولاً أو إمبراطوريات، ولكنها المحاولات الزائفة التي تلبس هذا النوع من الصراعات لبوساً حضارياً، وتحاول أن تمده على اتساعه، وتمنحه عمقاً، عبر ربطه بالحضارات، هي التي تشكل خطراً على الحوار الحضاري، وتجعل منه مجرد تكتيك في استراتيجية كبرى، أو تفصيل جزئي في تصور سياسي شامل ينطوي على رغبة عارمة في الهيمنة والاستحواذ من قبل الدول الكبرى على نظيرتها الصغرى.

3 - حصر الحوار في نطاق النخب، بشتى أنواعها، وعدم الالتفات إلى الجمهور العريض، المعني بهذا الحوار، والذي يمكن أن يسهم في إنجاحه، لو وضعت خطة متكاملة الأركان، يشارك الجميع في صياغتها، من أجل إشراك الناس جميعاً، في مشارق الأرض ومغاربها، في الحوار عبر مختلف أدوات الاتصال الجماهيري، التي شهدت ثورة كبيرة في السنوات الأخيرة.

4 - غلبة اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافاً أقوى، وأكثر تحضراً من الأخرى المتحاورة معها. ومثل هذا التصور يقود إلى إذكاء الصراع وتأجيجه، وليس إلى قيام حوار إيجابي يقود إلى التعاون. فالصراع يحدث عندما تختال إحدى الثقافات على الأخريات، وتعتبر نفسها الثقافة العظمى، ودونها الصغريات، وهنا يقول حسن حنفي إن: quot;العلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية، علاقة بين الواحد والكثير، علاقة ذات صلة بالوجود.. بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، إنها ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة، تتجاوز كل الثقافات الأخرى، وتتفوق عليهاquot;.

وهناك من يتوقع أن تصل كافة الحضارات البشرية في وقت، طال أم قصر، إلى نوع من التماثل في التطبيقات التقنية، وبالتالي تتماثل طرق المعيشة. ولكن هذا التماثل في مجال التقنيات لا يعني أبداً خلق أنماط إنسانية، بل ستظل هناك عدة حضارات متمايزة جداً، وذلك بحكم اختلاف البشر، وهو اختلاف طبيعي، لا جدال فيه. وسيكون لفظ الحضارة على المدى البعيد، سواء احتفظ بطبيعته الفردية أو الجماعية، أو بهما معاً، لفظاً لا يتوقف أمامه المؤرخون، أو يترددون بشأنه في الوصول إلى رأي صريح حازم قاطع، مثلما فعل فرديناند بردويل، في كتابه المهم quot;تاريخ وقواعد الحضاراتquot;.

وظني أن هذا الرأي القاطع لن يخرج عن الاقتناع بثلاثة أمور أساسية، الأول هو أن الحضارات الإنسانية لا تفنى كلية، ولا تنتهي أبداً إلى العدم، بل هي تندمج، أو ما تبقى منها، في الحضارة التي تليها. والثاني هو أن أي حضارة، مهما علا شأنها، مصيرها إلى التراجع، لتفسح الطريق أمام غيرها ليتقدم، وهذه سنة حياتية لا فكاك منها، مهما طال الزمن بتسيد حضارة ما. أما الثالث فهو أنه لا يوجد ما يمنع منعاً حتمياً أن تعود حضارة أفل نجمها إلى سابق توهجها وعطائها.

وتلك الآراء الثلاثة تفرض أن يظل الحوار مفتوحاً بين الحضارات، أياً كان وضعها، ومهما كان حجم عطائها، فلا أحد يمتلك كل شيء ومعنى، ولا أحد محروم من أي شيء وأي معنى. ومن هنا فإن الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض. وبالمفهوم الاقتصادي، فإن كل طرف حضاري لديه ميزة نسبية في أمور معينة، ومن ثم يصبح من الرشد أن يتبادل الناس المزايا، وكل ما يفيد البشرية في بحثها الدائب والدائم عن الترقي في المعيشة، وتحسين شروط الحياة وفرصها.

وهذا الفهم، الذي يجب أن يشتد ساعده ويترسخ، لا يصح أن يترك فقط للمؤسسات الرسمية، سياسية أو دينية أو ثقافية، ولكن من الضروري أن يمتد إلى الأفراد العاديين المتحضرين، في مختلف أرجاء المعمورة، ممن يؤمنون بأن الحوار هو الطريق الأمثل للتعامل بين البشر، وبالتالي السبيل الأفضل لإقامة علاقات إيجابية بين الوحدات التي ينتظم فيها الناس، مؤسسات أو دولاً أو حضارات جامعة.

إن ثورة الاتصالات الرهيبة، التي حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة، تقدم آلية قوية لقيام تحاور بين المتحضرين، بعيداً عن المسارب الرسمية، التي تسيس الحوار وترهنه للمصالح الدولية والتصورات الاستراتيجية لكل دولة، أو تكتل إقليمي ما.

والحوار بين المتحضرين يجب أن يشمل الأفراد والتجمعات الشعبية على حد سواء، فمؤسسات المجتمع المدني التي يشتد ساعدها ويترسخ وجودها في مختلف التفاعلات والعلاقات الحياتية وتتعزز روابطها على المستوى العالمي، عليها دور كبير في إطلاق حوار المتحضرين، جنباً إلى جنب مع الجهود الفردية، التي يبذلها أناس ضمائرهم يقظة، وقلوبهم موجوعة، ونفوسهم قلقة، مع حالة التوحش التي يعيشها العالم.