محمد الأشهب

ذهب أردوغان وترك للمغاربيين ما ينشغلون به لفترة ستكون بكل المقاييس أطول من زيارته القصيرة. وفيما كان الحزب الإسلامي quot;العدالة والتنميةquot; الذي يقود الائتلاف الحكومي في المغرب يعول على دعم قوي يستمده من شريكه في الاسم، حصد مزيداً من الخيبة والارتباك. أقلها أن مقاطعة رجال الأعمال المغاربة زيارة المسؤول التركي، خلفت انطباعاً بأن الرهان الاقتصادي الذي أنجزه الحليف التركي لم يكن صداه بنفس الوقع في تعاطي إسلاميي المغرب والملفات الاقتصادية في بلادهم.

أبعد من ذلك أن الإحراج لم يكن من نصيب رئيس الحكومة المغربية الذي كان يشبهه مناصروه بـ quot;أردوغان الشمال الإفريقيquot; عبد الإله بن كيران. بل امتد ليشمل الضيف التركي ورجال الأعمال الذين رافقوه إلى زيارة، غاب عنها محاوروهم المغاربة. فكان الخطأ أكبر من هفوة سياسية واجهت أول اختبار حقيقي للتجربة المغربية الراهنة. لكن صورة أردوغان تعرضت بدورها إلى الخدش، بسبب الاحتجاجات التي تطورت إلى أعمال عنف أربكت الضيف التركي الذي لم يأت فاتحاً، بل متردداً أو مكسوراً.

كان صعباً على أردوغان أن يلغي الزيارة المغاربية التي بدت خارج السياق الداخلي، بالقدر الذي كان يستحيل أن يخضعها لجولات بزخم اعتيادي. فهو يدرك أن مستقبله السياسي يتوقف على الداخل التركي، لكن من دون استبعاد الانتفاع الخارجي الذي حول التجربة إلى نموذج أمام بلدان الربيع العربي التي استأثر فيها الإسلاميون بنفوذ متزايد. ومن سوء حظ quot;العدالة والتنميةquot; المغربي أن تطلعاته إلى ذلك النموذج اعتراها التحفظ.

عبد الإله بن كيران نفسه لم يصافح نظيره التركي، وهو متحرر من ضغوط وإكراهات، فقد انفرط عقد الحوار بينه وبين رجال الأعمال، تماماً كما لجأت فصائل المعارضة إلى مقاطعة جلسة مساءلته الشهرية أمام مجلس النواب. ما جعله يواجه احتجاجات سياسية، تختلف عن أحداث ساحة quot;تقسيمquot; في درجة استخدام العنف وتحريك الشارع. لكن الرجلين التقيا عند ضفاف توجيه اللوم إلى المعارضة، وترديد مقولة الحسم عبر صناديق الاقتراع.

خلاصة الموقف أن خيارات الناخبين إن كانت سليمة وديموقراطية تحتكم إلى صناديق الاقتراع، فإنها لا تطلق اليد الطولى للغالبيات. فهناك دائماً معارضات وأقليات لا تستسلم أمام القاعدة التي تلغي إمكان الإنصات إلى صوتها. وهي إن كانت في التجربة التركية تنصرف إلى طرح بعض إشكالات الهوية والثوابت، فإنها في المغرب تستند إلى المرجعية الدستورية. وربما كان خطأ بن كيران أنه تصور حسم صناديق الاقتراع نهائيا. فيما خصومه يرون أن الزخم الذي رافق اشتراعيات 2011 لم يعد بنفس الدرجة من الثقة والحماسة. أو هذا على الأقل ما يلوح به منافسوه الذين يرصدون هفواته.

يدرك رئيس الوزراء التركي أن بوابة إفريقيا لا تنفتح من دون طرق قلاع الشمال الإفريقي. إنه مثل الأوروبيين يقتفي أثرهم في الانفتاح على منطقة المغرب العربي التي تقود إلى العمق الإفريقي. لذلك فقد جاء يحمل بوادر وساطة تحت شعار المساعي الحميدة. وقد جرب حظه في أن يدخل على خط التصدع الذي يعتري العلاقات المغربية ndash; الجزائرية، بسبب تداعيات قضية الصحراء وسريان مفعول إغلاق الحدود البرية وتباين المواقف إزاء ملفات إقليمية عدة.

بيد أن لا التوقيت ولا المعطيات الراهنة يساعدان في تحقيق الانفراج. من جهة لأن الجزائر تعيش وضعاً استثنائياً نتيجة خلو كرسي الرئاسة الشاغر بفعل مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. ومن جهة ثانية لأن ملف العلاقات المغربية ndash; الجزائرية يراوح مكانه ويصعب زحزحته عن نقطة الصفر.

غير أن أردوغان الذي يدرك حجم الصعوبات، كان يعنيه أن يضمن للاقتصاد والسياسة الخارجية التركية موطئ قدم في منطقة باتت حكراً على النفوذ الأوروبي، وتحديداً فرنسا وإسبانيا. وهو يريد بذلك التلويح لشركاء بلاده الأوروبيين أن تركيا مع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو بدونه تستطيع أن تفعل شيئاً، في مقابل التردد الأوروبي. غير أن الأهم أن اللاعب التركي الذي ضمن لنفسه مقعداً في جواره الإقليمي بات يتطلع إلى امتداد أرحب، ولو أن التوقيت مرة أخرى أحاط مبادرته بالحذر. وأقربها أن نجاحه يفسح في المجال أمام تزايد نفوذ الإسلاميين، وهو ما تنظر إليه الجزائر بغير ارتياح.

لم تخلف زيارة مثل الجدل الذي أثارته جولة أردوغان المغاربية. فقد انتهت ولم تطو تداعياتها المحلية والإقليمية. وربما أن التوقيت كان له النفوذ الأقوى في الحد من الاندفاع التركي، وفي تاريخ الامتداد التركي أن العثمانيين توقفوا أمام بوابة وجدة على الشريط الحدودي بين الجزائر والمغرب. لكنهم اليوم يعاودون الكرة من منطلقات تأثير الاقتصاد والسياسة. ويبقى للوقائع التاريخية مفعولها الذي لا يمحوه الزمن.