علي محمد فخرو

من يمعن النظر في ملامح صورة الحياة العربية، في وطن العرب كلًّه، في أيامنا البائسة الحالية، لا يستطيع إلاً أن يصرخ: لك اللُه ياأمة العرب. لنلاحظ الملامح السريالية المضحكة المبكية المقلقة الآتية:
الملمح الأول هو أنه بعكس الكثير من الأمم الأخرى لا تحتفل أمتنا في الحاضر بذكرى أبطال أو قادة أو أفراد عاديين ماتوا في ساحات القيام بالواجب أو ساحات الحروب ضدُ أعداء الأمة، وإنًّما تقيم الاحتفالات شبه اليومية إحياءً لذكرى من أغتيلوا غدراَ وتعصًّباً من قبل مجانين وموتوري هذه الجماعة أو تلك السًّلطة. أصبح الإغتيال، خصوصاً اغتيال الخصوم السياسيين والمذهبيين، الذي كنا لا نسمع به إلاً نادراً، والذي كان يعتبر عيباً وجبناً وتوحُّشاً، أصبح يمارس بدم بارد وضمير ميٍّت، لتعود المجتمعات العربية إلى الأزمنة البدائية الحيوانية السحيقة التي كانت لا يحكمها قانون ولا دين ولاقيم إنسانية.
والسؤال هو : هل تعتقد السلطة التي تغتال محتجاً مسالماً في الشارع أو الجماعة التي تغتال بخسَّة إنساناً خارجاً من باب منزله، بأن ارتكاب تلك الحماقات سيغٍّير مجرى الأمور وطبائعها؟ والجواب هو كلاً، إذ كما قال السياسي البريطاني الشهير بنجامين ديزرائيلي فان lsquo;الاغتيال لم يغيٍّر قط تاريخ العالمrsquo;، وهو من المؤكد لن يوقف تفتُّح أزهار الربيع العربي، الذي ترنو إليه أمة العرب، طال الزمن أوقصر.
الملمح الثاني هو تفشٍّي ظاهرة الأصوات العلنية، الرسمية منها وغير الرسمية، التي تستغيث بالخارج لإقحامه في حلٍّ مشاكل هي في الأساس داخلية. ويا ليت الخارج اقتصر على المنظَّمات الدولية أو الإقليمية أو الدولية المعنيًة، إذن لهان الأمر. لكن تلك الاستعانة أصبحت تستقوي بعناصر الشرًّ في الخارج لتصبح أخطاراً وكوارث.
لقد أصبح استدعاء الجيوش الأجنبية، كما حدث مثلاً قبل في العراق وليبيا، وكما يراد له حالياً مثلاً أن يحدث في سورية ولبنان والسودان، أصبح حديثاً عادياً غير مستهجن وطبعاً سياسياً عربياً بامتياز. وفي غالبه هو استدعاء يتوجه إلى دول استعمارية لا يمكن أن تريد الخير للعرب ولا يمكن أن تكون أهداف تدخُّلاتها بدون ثمن سياسي واقتصادي، بل إنها أهداف تمزيقية للمجتمعات على أسس عرقية وطائفية ومناطقية وقبلية.
فاذا اضيف إلى ذلك استدعاء مجانين الجهاد العبثي الممارس لكل أنواع العنف والإرهاب والقتل الذي لا يفرًّق بين عدو محارب وبين مدني مسالم، الجهاد الطائفي المكفًّر، أذا أضفنا ذلك الإستدعاء الذي تغذًّيه أموال هذه الدولة أو تلك أو تجيًّشه هذه الجماعة أو تلك فاننا نخرج بصورة ملمح لا يرى في استباحة الأرض العربية جرماً ولا في سفك دم المسلم من قبل المسلم حراماً.
بهذا تضيع جهود وتضحيات أجيال عديدة حاربت من أجل الإستقلال وحرية الأوطان عبر قرن كامل وتضيع محاولات وأفكار عشرات العلماء والإسلاميين المستنيرين من أجل دين عقلاني متسامح مستنير مناقض للتبريرات الجهادية المرعبة التي نسمعها. وهكذا يجرى على قدم وساق تدويل الربيع العربي ليتشابك مع توازنات المصالح العولمية السياسية والإقتصادية.
الملمح الثالث هو الرجوع العبثي لثنائية وصراع وتباعد هوية العروبة ودين الإسلام، لتضيع جهود مكثَّفة قام بها كثيرون عبر أربعين سنة من أجل تقريب الفكر السياسي القومي العربي من الفكر السياسي الإسلامي، وبناء أرضية مشتركة تقود إلى التعاون والتنسيق، بل وربَّما كتلة تاريخية ديموقراطية تركًّز على الاستراتيجيات العربية الكبرى الممثلة في إطروحات المشروع النهضوي السٍّت : الوحدة العربية، الديموقراطية، الإستقلال القومي والوطني، التنمية الإنسانية الشاملة، العدالة الإجتماعية والتجديد الحضاري والثقافي.
اليوم هناك بوادر الرجوع إلى عداوات الخمسينات من القرن الماضي العبثية التي أضرَّت بالجميع، بالقوميين والإسلاميين، وساهمت في حدوث الإنتكاسات الكبيرة المعروفة التي تميًّز بها نصف القرن الماضي من حياة أمة العرب. ومرَّة أخرى ينسى الجميع أن لا إسلام قوي بدون عرب أقوياء وينسى الذين يريدون تحويل الخلافات السياسية العابرة إلى خلافات عقيدية وفكرية بأنهم يغردون خارج ما يمكن اعتباره قد حسم. لقد حسمه الكثير من الكتاب، بمن فيهم المسيحيون، والإسلاميون عندما أظهروا بأن العروبة والقومية بدون الإسلام تصبحان شعارين بلا روح ولا أمتداد تاريخي وثقافي، وبأن نهوض العرب القومي هو الطريق لأن يكون العرب حملة رسالة الإسلام إلى الإنسانية جمعاء.
تلك الملامح المفجعة وغيرها الكثير تقود إلى ملمح رابع وهو إدخال الإنسان العربي، الذي كسرو خرج من قفص الخوف مؤخراً، إدخاله في قفص القنوط واليأس من نفسه وأمته. إنها أصرار قوى الشر في الخارج والداخل على أن يعيش العرب لعنة ومأساة سيزيف اليونانية الشهيرة، فما يكاد يدحرج سيزيف صخرة خلاصه إلى قمة الجبل حتى تدحرجها الآلهة إلى القاع، لتبدأ رحلة عذابه.
لقد كنا ولازلنا من الموقنين بأن شباب ثورات وحراكات الربيع العربي سيكسرون تلك اللعنة وسيهزمون آلهة الشر.
لكن ذلك سيكون مستحيلاً إن ظلًّ شباب الثورات يمارسون السياسة بنفس الطريقة الشخصانية العبثية المتخلفة التي استعملتها أجيال الفشل السابقة، فما جنت الآمة من ذلك إلاً الحصرم.