بكر عويضة

ليس جديدا أن تواجه جولة تفاوض فلسطينية - إسرائيلية جديدة أصوات أطراف تعترض عليها، مدعومة بوجهات نظر تشكك في الفائدة منها. كلا الفريقين يسوق من الأسباب ما ينطلق من أساس مبدئي أو حسابات تنظيمية، أو مواقف ذاتية. لقاء واشنطن هذا الأسبوع سبقته تلك الموجة، رغم أن هدفه كان محددا بأن يتحدث الطرفان عما سيجري من مفاوضات موسعة لاحقا. مع ذلك، يمكن القول إن اللقاء شكل فرصة للرئيس باراك أوباما ووزير الخارجية جون كيري لإثبات أنهما عاقدان العزمَ على المضي في ممارسة ما يلزم كي توصل جولات التفاوض اللاحقة إلى ما فشلت إدارات جورج بوش الأب، بيل كلينتون، وجورج بوش الابن، في تحقيقه على جبهة السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. فرصة أوباما - كيري تعززها ظروف موضوعية وذاتية. الأول ليس مرهونا لانتخابات رئاسية، وأكثر من التطلع إلى جائزة نوبل للسلام، الأرجح أنه يرنو إلى دخول التاريخ باعتباره صانع المستحيل. الثاني يفيده، إن دخل حلبة سباق الرئاسة مجددا، أن يتضمن سجل حملته الانتخابية إنجاز ذلك السلام التاريخي، خصوصا إذا حظي بأوسع دعم ممكن من قبل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.

ما رشح حتى كتابة هذا المقال يفيد بأن لقاء واشنطن انتهى إلى اتفاق الطرفين على التوصل إلى تسوية دائمة خلال تسعة أشهر. جيد، إنما من المستحسن أن نكون مهيئين لعقبات محتملة. مثلا، لن يدهشني أن يوضع السفير مارتن إنديك في قفص اتهام الانحياز. المرشح الأول لتوجيه اتهام كهذا هو الطرف الفلسطيني. إنما، ضمن إثارة غبار من المسؤول عن تعثر المفاوضات، سيدلي الخصم الإسرائيلي بدلوه هو أيضا، فينال إنديك بعض النصيب من لوم تل أبيب. حصل هذا من قبل مع دينيس روس، جورج ميتشيل، ومارتن إنديك نفسه. لست هنا أدفع عن أحد حق الشك، ولا أدافع عن إنديك أو غيره، ليست لي علاقة شخصية بأحد، إنما لدي، كما كثيرين غيري، أمل أن تحصل مفاوضات جدية بالفعل، لا تخترع لتعليقها، خصوصا من قبل المنهمكين فيها، مبررات تستنسخ تلك التي صارت مملة لكثرة تكرارها، فتثبت من جديد laquo;عبثيةraquo; التفاوض، كما يكرر المشككون، وتعطي laquo;صدقيةraquo; لمواقف من يعترضون أصلا على كل تسوية ليست تتفق مع فكرهم الاستراتيجي.

وفي السياق ذاته، أليس يكفي احتمال أن يحدث على الأرض، من جانب غلاة المستوطنين، ما يبرر للطرف الفلسطيني نفض اليد، والخروج من قاعة التفاوض بغضب، ومن قبل أي تنظيم فلسطيني ما يوفر للطرف الإسرائيلي الموقف ذاته؟

حسنا، لئن حصل ذلك، ندخل الدوامة مجددا. تأخذني مفردة laquo;دوامةraquo; تلك إلى رؤية ذاتية خلاصتها أن علاج الداء الفلسطيني - الإسرائيلي كان دائما متاحا وشديد البساطة منذ زمن بعيد. أي قول ساذج هذا؟! سيقول كثيرون. لست ألومهم، بل ردي، ببساطة، دعهم يقولون. المنطق يقول إنه لو أراد laquo;كبارraquo; المعنيين حل laquo;قضيةraquo; يصر كل أطرافها على تصويرها مستعصية على كل الحلول لأمكنهم ذلك. وإذا كان من الضروري السؤال: منذ متى كان الحل ممكنا؟ فإن الجواب بسيط أيضا، منذ ما قبل إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، كان الواجب الأخلاقي يحتم على لندن ألا تخرج من فلسطين قبل إرساء أسس سلام، لكن ذلك لم يحصل، ثم جاء تقسيم 1947 ومضى، ثم سويس 1956، وبعدها أيام 67 الستة، فأكتوبر (تشرين الأول) - رمضان 73، ثم كامب ديفيد 79... إلخ، إلخ، كم من حرب وضعت أوزارها زورا، إذ تركت الجمر مشتعلا تحت ركامها كي تلد ضرة لها تحرق أكثر من سابقتها.

لماذا؟ لأن أحدا بين laquo;الكبارraquo; لا يريد الحل. ذلك، بجد، حتى الآن، هو الجواب. من هم أولئك؟ ومن يكونون سوى، أولا، كبار المتحكمين بالقرار في عواصم القرار العالمي، وصولا إلى قادة كبار على ضفتي المأساة ذاتها، مرورا بمن خشوا زوال عظمة زعاماتهم من دون نكبة فلسطين والذود عن قضيتها المقدسة على الساحة القومية؟ أحد معاني الساحة أنها مكان اللعب، والذين لعبوا بمأساة الفلسطينيين كثيرون، وكذلك أيضا الذين حولوا قدسية laquo;القضيةraquo; إلى ملعب كل منهم يسدد في مرماها من الأهداف ما يخدم أجندة حزب، تنظيم، أو زعيم.

عود على بدء، هل نحن أمام حالة تفاوض مختلفة، ذات حلة جديدة، وجديدها هو الجدية؟ ربما، لكن ذلك لن يتأتى من دون ضغط. ثمة من سيذكر بالمثل الشهير: بإمكانك جر الحصان للنهر، لكنك لن تستطيع إرغامه على الشرب. صحيح. مع ذلك، بوسع كل من أوباما وكيري ممارسة دور laquo;الأخ الأكبرraquo; من دون حصره ضمن ضوابط محددة، أي حتى لو تطلب الأمر الضغط على الطرفين، كي يتجرع كل منهما ما قد يكون مر الدواء. المفارقة هنا أن المرء يحار، ماذا بقي عند الفريق الفلسطيني ما يُضغط عليه به كي يتنازل عنه؟ حظ سعيد للسيد الرئيس أوباما والسيد كيري.

***

محطة 2 أغسطس 1990

كما ندرك كلنا، ثم محطات تقف على أرصفتها قطارات الشعوب، ثم تعبرها، إنما يصعب، وربما يستحيل دفن كل آثارها في بئر النسيان، يبقى الحدث ذاته علامة فارقة في مسيرة الشعب ما بقي الزمان. مثال ذلك، الثاني من أغسطس (آب) 1990 في ذاكرة الكويتيين، والعراقيين، ثم العرب أجمعين. التراتبية مقصودة. ليس بوسع غير الكويتي، مهما حاول، تصور حجم وقع ألم أن تصحو على إيقاع laquo;بسطارraquo; الشقيق الجار وهو يغزو دارك. أما آلام العراقيين فليست تقل في الوجع، فقد أذاقهم صدام حسين المر ابتغاء عظمته، وذاقوا الأمر بفعل عقوبات دولية ظالمة، كل ذلك جرى لهم ولبلدهم بحكم تداعيات ذلك النهار، أما عن الذي جرى من قصم لظهر العرب، مذ وقع حدث ذلك اليوم، فحدث ولا حرج. قليلون الذين يقبلون التقليب في صفحات الأمس لفهم مجريات اليوم. لكن ذلك طبع ليس يخص العرب وحدهم. ذاكرة الشعوب، في أغلب الحالات، انتقائية، تريد ما ييسر معيشة حياتها اليومية، من دون كثير غوص في تفسير أو تحليل يذكر بما مضى من الزمن. عند هذه النقطة، حري أن أتوقف، كفى ما سبق من تطويل.