سمير عطا الله

العاصمة البولندية، فرصوفيا، لا تحمل جمال المدن الأوروبية الأخرى. فقد دمر 85 في المائة منها خلال اكتساح هتلر بلاد الناس. وما أعيد ترميمه تم خلال العصر الشيوعي، أي في زمن القلة والهندسة الإسمنتية المفرطة في التقشف والتسطيح. والمباني العالية الحديثة التي رأيتها في موسكو كان إسمنتها عاريا وبلا لون.

تلقف البولنديون مآسيهم وغزوات الغرباء، بالصبر والدعابة، مثل المصريين. وأعتقد أن معظم النكات التي كانت تنتشر حول فشل النظام الاشتراكي، كانت تخرج من فرصوفيا، رغم قتومها. أو ربما بسبب ذلك. ولعل أهم معالمها هو laquo;قصر الثقافة والعلومraquo; الذي يقال إن ستالين قدمه للمدينة. وتقول الدعابة إنه يمكن رؤية أجمل مناظر العاصمة منه، لأنه بلا نوافذ مطلة أو شرفات.

كان البولنديون أكثر من عانوا في ظل هتلر ثم في ظل هازمه، ستالين. لكن يبدو أنهم بنوا بعد انهيار الشيوعية أحد أهم الاقتصادات الصناعية. الأوروبي الشرقي السابق الذي كان يؤلف النكات على التعثر الاشتراكي يحاول أن يسابق اليوم التطور الصناعي المذهل في كوريا الجنوبية أو تايوان. وبعد قليل قد يتساوى مع اقتصاد تشيكيا، التي كانت أول بلد شرقي ينضم إلى كواكب الازدهار، إذ بلغ معدل دخل الفرد نحو 20 ألف دولار.

هذا رقم لا مقياس له في النظام السابق ولا مقارنة. لكن يجب الملاحظة أيضا أن البولنديين شعب عامل في أي نظام سياسي. وقد حققوا نجاحات كبيرة في أميركا كمهاجرين قدامى ويحققونها اليوم كمهاجرين جدد في أوروبا. وقد أحزنني أن أرى المكتبة البولندية في باريس قد أغلقت أبوابها، مع أن البولنديين يكتبون اليوم بعض أجمل الشعر والرواية، فيما يصل إلينا من ترجمات، خصوصا في الـlaquo;نيويوركرraquo;. وقد ارتفعت نسبة الترجمة الفكرية والروائية مما يدل على أن الحركة الأدبية والثقافية في ظل النظام الشيوعي كانت أيضا بالغة الحيوية. ورغم الرقابة المعروفة، استطاعت الصحافة أيضا أن تحقق مستويات عالية.

تضررت دول مثل إسبانيا واليونان والبرتغال من الانضمام إلى الوحدة الأوروبية، فيما عرفت بولندا (وتشيكيا) من انفتاح غرب القارة على مهاجريها وصناعتها. وتخلف الشرقيون الآخرون مثل رومانيا، وهنغاريا، رغم الجمال التاريخي الذي تتمتع به الأخيرة. والذين يذكرون كم كان دولارهم يشتري في فرصوفيا أيام الشيوعية لا بد أن يعرفوا أن بولندا تنضم الآن إلى الدول الغنية وتخرج من فقر الماضي كما خرجت كوريا الجنوبية، فيما تصر كوريا الشمالية على الفقر والمجاعة وإطلاق الصواريخ.

لا يزال البولنديون يرسلون الدعابات، لكنهم نسوا الشيوعية وزمنها المتجهم. عندما تسمع نكتة معربة عن الميسورين، تمهل قليلا، قد تكون صنعت في بولندا.