فهمي هويدي

رأينا في الصور التي خرجت من سيناء أمس حاملة عسكرية تقوم بنشر المدرعات، وبلدوزر يدك أحد الأنفاق، وقرأنا في التقارير المنشورة عن طائرات الأباتشي التي تواصل قصف البؤر الإرهابية، وعن تدمير مخازن للأسلحة في الشيخ زويد ورفح وعن سقوط تسعة من الإرهابيين الذين استهدفتهم الحملة العسكرية. وهذا الذي طالعناه أمس تكرر بصورة أو أخرى طوال الأيام السابقة، خصوصا منذ صدمة قتل 25 من جنود الأمن المركزي على أيدي بعض الإرهابيين في 18 أغسطس الماضي.

الشاهد أن سيناء في الإعلام المصري والوجدان العام أصبحت ساحة مسكونة بالبؤر الإجرامية من ناحية، وعصابات التهريب من ناحية ثانية، ثم إنها مصدر لأخطار وشرور تهدد أمن مصر تأتيها عبر الأنفاق المنتشرة على طول الحدود مع قطاع غزة. ويبدو أن هذه الصورة استقرت في أذهان النخب القابضة على السلطة حتى باتت تخاطب سيناء بالمدرعات والأباتشي والبلدوزرات. أدري أن لغة القوة هذه ظهرت إلى السطح في أعقاب تعدد حوادث الاشتباك والتفجير خصوصا تلك التي استهدفت جنود الأمن المركزي كما استهدفت رموز السلطة والأمن في شمال سيناء وجنوبها، وليس لدى أي كلام في ضرورة محاسبة الذين ارتكبوا تلك الحوادث، لكن تحفظي ينصب على أمرين هما. أسلوب المحاسبة الذي ينبغي أن يحتكم فيه إلى القانون وتتوفر له ضمانات العدالة المتعارف عليها، ثم نطاق المحاسبة الذي ينبغي ألا يهدر حقوق الأبرياء من خلال الاستخدام المفرط للقوة العمياء.

إنني أخشى في التعامل مع سيناء من التعويل على القوة وليس القانون، وعلى الانفعال وليس الحكمة. كما أنني أخشى من اعتبار الأصل في السيناويين هو الاتهام وليس البراءة ومن تصنيف سيناء بحسبانها جبهة قتال وليست جزءا من وطن، في الوقت ذاته فإنني أكرر وأشدد على أن الأمن في سيناء قضية أكبر بكثير من أن يتولاها رجال الأمن دون غيرهم.

صحيح أن الجرائم التي ارتكبت في سيناء تستحق الغضب وتستدعى الاستنفار والحساب. إلا أن ذلك لا يبرر بأي حال الانتقام من أهالي سيناء. ولا اعتبار ما جرى بمثابة لعنة تطارد الجميع أو ثأر يجب الأخذ به ورد الصاع فيه بصاعين. ذلك أن غضب السلطة له ضابط من القانون وله حدوده المحكومة بالمصالح العليا، أما حين تطلق السلطة العنان للانفعال المتجاوز للضوابط والحدود، فإن ذلك يفتح الباب واسعا لمسلسل الكوارث والشرور.

أقول هذا الكلام وبين يدي كم من الرسائل والشهادات الآتية من سيناء، التي توحي بأن المحظور وقع، وأن ما أحذر منه أصاب أناسا أبرياء في معايشهم وأرزاقهم ودورهم وزروعهم. الأمر الذي أحدث جروحا غائرة يصعب التئامها في الأجل المنظور. واحدة من تلك الرسائل تلقيتها من الأستاذ إسماعيل الإسكندراني الذي عرف نفسه بأنه حقوقي وصحفي قادم من سيناء. وقد رسم فيها صورة صادمة ومفجعة. إذ تحدث عن مسجد قصف مرتين بطائرات الأباتشي، وعن امرأة مسنة قتلت برصاص خارق للجدران أصابها وهي جالسة في بيتها. وعن السيارات التي أحرقت، والبيوت التي تم تفتيشها ولم يعثر فيها على شيء. فأخرجت منها أنابيب البوتاجاز ثم أشعلت النيران في أثاثها، تحدث أيضا عن الاستيلاء على محتويات بعض البيوت بما في ذلك حلى النساء، وعن أشجار زيتون جرفت وأبراج حمام دمرت وأغنام قتلت وعشش وخيام أحرقت. وذلك قليل من كثير تحدثت عنه الرسالة التي أرفقها بصور تم التقاطها لتلك المشاهد، التي أرجو أن تكون محل تحقيق من جانب منظمات حقوق الإنسان على الأقل.

إذا كان يدهشنا ذلك الذي يحدث في سيناء باسم مكافحة الإرهاب، فإن ما يحدث على الحدود مع قطاع غزة يحيرنا، لأننا لا نعرف بالضبط سببا مقنعا له ولا مصلحة وطنية فيه. أتحدث عن تدمير الأنفاق وإقامة منطقة عازلة بطول 13 كيلو مترا على الحدود. وينتابني شعور بالخزي حين يخطر لي أن إسرائيل هي المستفيد وصاحبة المصلحة الحقيقة في الاثنين، هي مستفيدة من خنق القطاع وتجويعه وهي المستفيدة من المنطقة العازلة التي لم يستطع نظام مبارك المضي فيها قبل خمس سنوات (عام 2008) فأوقفها توقيا لغضب الأهالي. لا يستطيع المرء إلا أن يسلم بأن التعبئة ضد الأنفاق وإيهام المصريين بخطرها حققت نجاحا مشهودا، إلا أن كل من له ضمير حي لابد أن تقلقه الكارثة الإنسانية التي تهدد القطاع جراء أحكام هدم الأنفاق، ولابد أن تتضاعف حيرته حين يجد أن فتح معبر رفح لمرور البشر والبضائع وإخضاعه لرقابة السلطة المصرية يمكن أن يمثل بديلا يطمئن المصريين ويريح أهالي القطاع، لكن مشكلته الوحيدة أنه لن يحظى برضى الإسرائيليين.