يوسف الكويليت

سورية قد تكون آخر المهمات العسكرية المعقدة في المنطقة العربية، فقد انسحبت نهائياً بريطانيا وفرنسا عن تداول قضايا المنطقة بعد الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956 لتستلم أمريكا والاتحاد السوفياتي هذا الدور، لكن في ظل النهايات غير السعيدة بزوال القطب السوفياتي تفرغت أمريكا لتكون البديل في تحمل مختلف القضايا بدءاً من حرب 1973م بين العرب وإسرائيل إلى ضربات وجهت للبنان، وليبيا، والسودان، ثم تدخلات عسكرية في الصومال ولبنان، ثم حرب احتلال للعراق، وإنهاء حكم القذافي، وذلك لأن تلك المعارك كانت تعطي أسبابها وتُدعم من الكونجرس، بدون أخذ اعتبار لمجلس الأمن أو الأمم المتحدة وذلك لخلو الساحة من أي منافس دولي أو إقليمي للدولة المنفردة بالقرار الأممي..

لماذا أعلن أوباما رفضه في بداية ولايته خوض أي حرب تتعهدها أمريكا، وهل جرى تحول في استراتيجية الدولة العظمى بالانكفاء الذاتي على نفسها، والاتجاه إلى معارك أهم اقتصادية بالدرجة الأولى، والابتعاد عن مواقع النزاعات والتوترات، لأن طاقاتها التي استنزفتها تلك النزاعات كانت سبباً مباشرا في فقدانها الهيمنة على مراكز القوة الحساسة، والأدوار الاستراتيجية التي تجعلها تهتم بموقعها العسكري على حساب قيمتها ونفوذها الاقتصادي؟

هذه الأسئلة وغيرها مطروحة على كل المستويات في أمريكا، وكيف توجه بوصلتها إلى المناطق ذات الجاذبية الأهم والبعيدة عن خوض الحروب، ولذلك جاء التركيز على آسيا باعتبار هذه القارة مركز الجذب للاستثمارات والسوق الأوسط، والطاقات الهائلة لفاعلية التخطيط، وقوة العمل المدربة، بمعنى أن أوروبا استنزفت قدراتها وتحاول أن تكون منافساً بعد تصحيح حالتها الغارقة في تراجع اقتصادياتها، واتساع ديونها وانخفاض إنتاجها..

ورؤية أمريكا للمستقبل البعيد وضعها أمام تحديات أن الحروب يجب أن تكون آخر اهتماماتها دون التخلي عن قوتها العسكرية وتطورها وهنا يأتي الأمر لمنطقتنا العربية والتي ظلت بؤرة الصراع لما يصل إلى خمسة عقود لأمريكا، وكان السبب الرئيسي هو وجود الصراع العربي - الإسرائيلي وأن لا تبقى إسرائيل، كحليف غير عربي، في مرمى الدول المحيطة بها، لكنها اليوم تعتبر القوة الأكبر في المنطقة كلها بما فيها الدولتان الإقليميتان إيران، وتركيا، وبالتالي لم يعد هاجس الخوف عليها عسكرياً وارداً، بل إن أحوال العرب في العقود الماضية من الستينيات وحتى أوائل الثمانينيات كانت أفضل اقتصاداً وتضامناً مع بعضهم بما فيها قوتهم العسكرية، وحتى ما كان يسمى بالمواقع الاستراتيجية المهمة، لا توجد نزاعات بين الدول الكبرى أو مشاريع حروب وسط عولمة للاقتصاد والعلوم والاتصالات وغيرها، وحتى ميزة وجود الطاقة النفطية في المنطقة العربية لم تعد مجال نزاع في سوق مفتوح، واكتفاء شبه ذاتي لأمريكا من طاقتها الجديدة للبترول والغاز الصخري، ثم إن معاركها العسكرية التي خاضتها لم يأت لها أي عائد بل جذّرت الحروب الأهلية بأغطية قومية ومذهبية، وطائفية، وعملية معالجة هذه القضايا صارت أحد المستحيلات، والغوص فيها مشكل مادي وكلفة عسكرية وبشرية، وكل هذه أسبابٌ تجعل إعطاء الأهمية لهذه المنطقة أمراً ثانوياً إن لم يكن غير ذي جدوى لاستراتيجياتها، وبالتالي فإنها الأقرب للانسحاب من رمالنا المتحركة، لكن في غياب استراتيجية وطنية أولاً، وعربية ثانياً فإن قضايانا ستبقى مهمتنا وحدنا، وفي هذا الامتحان سنواجه مواقفنا بدون أغطية دولية إلا ما نقرره لأنفسنا..