طيب تيزيني


يعاني لبنان الآن من واقع حال، قد ينذر بانفجار آخر وفي مدينة منه أو بأخرى. كما يعيش حالة من التحفز والاضطراب، مُرافقين باغتيال شخصية سياسية ما أو أخرى. فهو -والحال كذلك- مؤسَّس على قنابل موقوتة، ربما منذ تأسيسه إلى اليوم القاسي الراهن، مروراً بيوم استقلاله عن فرنسا. ولبنان، إلى ذلك، مهم من موقع كونه قائماً على تعددية موزائيكية طريفة في الحقول الطبيعية والمدنية والمذهبية والإثنية والطائفية، وكذلك وبدرجة ضئيلة الثقافية واللغوية. وقد ألحق بلبنان كثير من الأذى الذي تحدّر من المحيط القريب والآخر البعيد. فهذا التنوع في الأنماط الدينية والأخرى المذكورة، أنتج حالة مفتوحة من الصراعات، هي بقدر ما كانت إيجابية، فقد أسهمت كذلك في فتح الآثار والأبواب باتجاه حضارات وثقافات وإثنيات كثيرة وغنية بعناصر النمو والازدهار.

وقد سار لبنان على ذلك النحو رغم المخاضات والتأثيرات والصراعات التي واجهها وظل محافظاً على وجوده المستقل، نسبياً في جلِّ الأحوال. وإلى هذا، ثمة عنصر آخر مارس دوراً ملحوظاً في لبنان، تمثل في تأثير الأقليات فيه وفي علاقاته مع الخارج الأجنبي خصوصاً. ها هنا يمكن الإقرار بأن تأثير الأقليات غالباً ما كان يظهر عبر أقلية أو أخرى، وذلك وفق التأثيرات التي كانت تنجم عن تأثير أحد مؤثرات الخارج فيه.

وقد كان الخارج، ولا يزال يلعب على الطائفة، أية طائفة تتوافق مع الهويات الدينية المطابقة لها خارجياً، ولن نكون مبالغين، إذا رأينا أن الخارج الديني - المسيحي الفرنسي على سبيل المثال أو الشيعي الإيراني، قد أوجد محوراً منطلقاً من تلك الهويات، بحيث كان يظهر تحت مصطلح laquo;الطابور الخامسraquo;، فهذا الأخير كان يعوَّل عليه في ظروف التصادم أو التوافق بين الطائفة الدينية مثلاً في الخارج، وبين الطائفة الدينية المطابقة في الداخل. وهكذا كان الأمر على صعيد الطوائف الدينية في لبنان وما يطابقها في الخارج، باسم الحماية من هيمنة الطائفة الكبرى واستدعاء الآخر ليكون عنصراً مهماً أو ربما حاسماً في العلاقة بين الفريقين.

على ذلك النحو جرى اختزال الصراع بين لبنان والاستعمار الفرنسي إلى أمر يخص أتباع هؤلاء وأولئك، باسم التبعية لطائفة معينة مشتركة بصفة كونها موجودة في داخل لبنان وفي خارجه. وإذا كانت العلاقة بين مسيحييِّ فرنسا ولبنان قد شطبت علاقة الهيمنة الاستعمارية، فقد شطبت كذلك العلاقات الأخرى بين الفريقين المذكورين في الحقل الداخلي اللبناني. ها هنا ينظر إلى الطبقات الدنيا على أنها تمثل امتداداً بنيوياً للطبقة الدنيا في تاريخ لبنان أي إنها تمثل الوجه الآخر من لبنان المتمثل في ذلك المركّب من اللبنانيين البعيدين عن الثقافة والحضارة المنطلقة من الغرب (الفرنسي) مثلاً.

وعلى ذلك الخط، يرى آخرون لبنانيون أنهم لا ينتمون إلى التاريخ العربي ولا إلى اللبناني، وإنما مرجعية أو مرجعيات أخرى، كالفارسية. ها هنا يضع الباحث يده على موقف آخر ينسلخ عن التاريخ العربي والأوروبي، ليجد هذه الهوية ممثلة في التاريخ والبنية الفارسية ثقافة وحضارة وآفاقاً مستقبلية. ولهذا وانطلاقاً منه، يرى الأمور ممثلو الطائفية الشيعية الفارسية. لقد أعلن نصر الله أنه وفي حربه ضد السوريين، laquo;إنما يسعى إلى تنَْقية المقدسات الشيعية في القُصير تحديداً، ممّن حملوا ويحملون الهوية laquo;المقدسة المعنيةraquo;.

الصراع في سوريا يحمل -يداً بيد- كذلك أهدافاً تتصل كذلك بقضايا الهوية الوطنية والقومية والتاريخية، فإذ تكون هذه الأهداف حاسمة في مجرى الصراع ضد الاستبداد الجماعي الرباعي، فإن تحقيق الهوية السورية والقومية العربية لن تكون خارج أهداف هذا الصراع، فقد برزت إلى السطح محاولات لتقسيم سوريا وللانسلاخ من العروبة المنفتحة والحداثة الفاعلة.