محمد كريشان


تونس في الأيام المقبلة سائرة إما إلى اتفاق شامل بين الحكومة ومعارضيها أو إلى قطيعة نهائية بينهما. الاحتمال الأول من شأنه أن يجعل التونسيين يتنفسون الصعداء لما لذلك من فتح المجال أمام حكومة جديدة من الكفاءات غير الحزبية تعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة بعد استكمال تركيبة اللجنة المستقلة المشرفة عليهما وانتهاء المجلس التأسيسي من التصويت على الدستور الجديد . أما الاحتمال الثاني فيعني أن أجواء عدم الثقة بين الثلاثي الحاكم برئاسة حركة lsquo;النهضةrsquo; الإسلامية ومعارضيها من ليبراليين ويساريين وقوميين مع عديد قوى المجتمع المدني تحولت طلاقا بائنا منذرا بمواجهة مفتوحة ليست سياسية فقط وإنما ما هو أكبر من ذلك بكثير.
وكأن بالحكومة لا يكفيها أن تكون عند هذا المفترق غير الآمن حتى تدوس في غمرة ارتباكها الشديد على ثلاثة ألغام كبيرة زادت منسوب الاحتقان ضدها:


أول هذه الألغام وأخطرها يتعلق بجهاز الأمن وما بات يعلق به في وضح النهار من شبهات اختراق من حركة lsquo;النهضةrsquo; وتواطؤ مع إرهابيين محتملين، فضلا عن تجاذبات بين قديم فاسد لا يستسلم وجديد لا ثقة فيه. هذه الشبهات تحتاج إلى توضيح سريع ومقنع غير أن صمت والتباس المواقف الرسمية لا يزيدها إلا ترجيحا. أما الفضيحة الكبرى بكل المقاييس فهي الكشف عن وثيقة تفيد بأن مصالح وزارة الداخلية تلقت إشعارا من مخابرات دولة أجنبية، وقبل أكثر من عشرة أيام من حدوث الجريمة، بأن النائب بالمجلس التأسيسي محمد براهمي معرض للاغتيال، غير أن تلك الأجهزة لم تتحرك بالجدية والسرعة المطلوبتين كما لم تعلم وزير الداخلية بذلك. ثاني الألغام الدخول، مرة أخرى، في مواجهة خاسرة سلفا مع الصحافيين قادت في النهاية للمرة الثانية في تاريخ تونس إلى الدخول أمس الثلاثاء في إضراب عام احتجاجا على ملاحقة الصحافيين والتضييق على وسائل الإعلام والحنين إلى العودة إلى سنوات تدجينها وتكميم أفواه العاملين فيها. وحتى إن بدا من بعض الصحافيين ما يمكن اعتباره تجاوزا للقانون فإن الفيصل في هذا المجال هو القوانين الأخيرة الخاصة بالإعلام، غير المتضمنة للسجن، وليس القانون الجنائي مع ضرورة تحكيم الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري التي أنشأت أصلا لهذا الغرض فإذا بالتبرم من تجاوزات السلطة ما جعلها هي الأخرى تقرر مقاضاة الحكومة لـ lsquo;تعسفهاrsquo; على الصحافيين.
ثالث الألغام، وليس بأهونها على الإطلاق، هذه الاتهامات الخطيرة للغاية الموجهة إلى القضاء، ليس فقط لأنه ما زال يضم فاسدين من العهد السابق بل لأن بعض هؤلاء تمت مؤخرا ترقيتهم، فيما يـُـبتز آخرون لخدمة الحكام الجدد كما خدموا من كان من قبلهم. أكثر من ذلك، القضاء في تونس الذي يرى أكثر من نصف التونسيين أنه فاسد، حسب منظمة الشفافية العالمية، أصبح متهما من قبل حقوقيين ومحامين، بالأدلة والأسماء، أن جزءا منه متواطؤ مع حركات إرهابية ولهذا فهو لا يتورع عن إطلاق سراح بعض عناصرها رغم خطورة القضايا العالقة بهم. كل هذا ووزارة العدل تلتزم إما الصمت والمراوغة.


الأنكى أن هذه الألغام مزروعة أصلا في تربة من عدم الاستقرار الإجتماعي والضائقة الإقتصادية المتفاقمة وارتفاع الأسعار المتواصل وتزايد التداين الخارجي واستمرار تراجع سمعة ومداخيل القطاع السياحي الاستراتيجي ، مع فشل رهيب في الخدمات العامة يتجلى بشكل مستفز ومخجل في المستوى العام لنظافة الشوارع التي بلغت حد تكدس أكوام القمامة في كثير من الأحياء بما في تلك التي كانت توصف بالراقية. وقد بات لافتا في الفترة الأخيرة أن يعود التونسي المهاجر من إجازته في بلده وقلبه منفطر على ما آل إليه حالها أو أن يعود منها الأجنبي متسائلا عما حدث لها لترجع القهقرى بهذا الشكل.
أمام كل ذلك، ما زالت الحكومة والمعارضة مواصلين لمماحكات زادها استفحالا عجز منظمات كبرى في البلاد (بالخصوص اتحاد نقابات العمال واتحاد نقابات أرباب العمل) عن فك عقد الاستعصاء بين الطرفين حتى أن حركتي lsquo;النهضةrsquo; ومعارضتها lsquo;نداء تونسprime; لم يريا غضاضة في اللجوء إلى lsquo;الأخ الأكبرrsquo; الجزائر للوساطة بينهما في حين لم تسمح الجزائر لتونس أو لغيرها بالتدخل في شؤونها خلال عشرية الدم وعشرات آلاف الضحايا. لذلك وغيره كثير، لم تجد جريدة lsquo;الصباحrsquo; التونسية العريقة حرجا في التساؤل على صفحتها الأولى بمقال عنوانهrsquo; هل ما زالت هناك دولة في تونس؟!!rsquo;.