نوال السعداوى

جاءتني الطفلة غاضبة من المدرس الذي قال إن الله سيحرق زميلتها القبطية في نار جهنم وأمرها ألا تأكل من طعامهاrlm;,rlm;

لم يقتنع عقل الطفلة الطبيعي بأن الله يمكن أن يحرق طفلة بريئة لأنها ولدت في أسرة قبطية, لكنها أطاعت الأمر لأن الطاعة فضيلة.
تذكرت طفولتي وأنا بالمدرسة الابتدائية, قضيت أياما من عمري أطرد من خيالي صورة صديقتي القبطية وهي تشوي في النار كالخروف, حتي أنقذني أبي وقال لي: شغلي عقلك ولا تطيعي كل شيء كالخروف, ثم رافقني أبي للمدرسة, سمعته يقول للمدرسين إن الله لايحرق الأبرياء الصغار لكنه يحرق الكبار الذين يخربون عقول الأطفال ويغرسون فيها بذرة التفرقة التي يصعب اقتلاعها بعد أن يكبروا, التعليم في الصغر كالنقش علي الحجر لا يزول.
في التاسعة من عمري قرأت في كتاب المدرسة أول عبارات التفرقة بين البنت والولد( سعاد تكنس وأحمد يقرأ, زينب تطبخ وسعد يكتب) وأصبحت أكافح طول حياتي لأتحرر من عبودية الكنس والطبخ وأنتزع لنفسي حق القراءة والكتابة. وجاء في كتاب القراءة الرشيدة أن الذكاء والقامة الطويلة ميزة الرجولة, والقامة القصيرة والطاعة ميزة الأنوثة, كنت طويلة القامة فأصبحت أحني ظهري لأبدو قصيرة, كما أصبحت أخفي ذكائي لأبدو مطيعة, لكن سرعان ما أنقذتني أمي وأعطتني كتبا( خارج الكتب المدرسية) تؤكد المساواة الكاملة بين الناس.


كنت طفلة محظوظة لتكون لي هذه الأم وهذاالأب, وليكون في بيتنا مكتبة كبيرة تضم كتبا أخري غير المدرسية المقررة علينا التي تقضي علي ذكائنا الفطري. كنا أكثر من ثلاثين طفلا وطفلة في الفصل, تحتوي بيوتهم علي صالون للضيوف ورفوف فوقها تحف ثمينة, ليس من بينها رف واحد للكتب. المرأة المصرية القديمة هي التي اكتشفت الحروف والكتابة منذ أكثر من سبعة آلاف عام, وعرف العقل المصري الطب والفلك والفلسفة والرياضة والهندسة والفن قبل أي عقل في البشرية, فكيف تدهورت عقولنا ومدارسنا وتعليمنا وأصبحنا في المؤخرة ؟
وهل يضع الدستور الجديد بعد كل هذه الثورات الأساس لبناء العقل المصري الجديد؟ هل ينجح في تحقيق مباديء الثورة فعلا وليس مجرد نصوص عامة لا تطبق؟ هل يمكن التخلص من الرؤية الجزئية للأمور والمصالح الآنية الحزبية والمهنية ؟.


يدور الاهتمام حاليا بالسطح الخارجي, بالاصلاح الظاهري أو بالتعديل فلجزئي, ولايدخل الي صميم التغيير الشامل والتجديد المطلوب الذي نادت به الثورات المتكررة, فمرجعية الدولة المدنية هو الدستور المدني الكامل دون بنود دينية, والقوانين المدنية مصدرها العقل وليس الشريعة.


العقل لا يعني العقلانية الأكاديمية التي تفصل بين فروع المعرفة, بل يعني العقل الكلي أو النظرة الكلية للحياة والانسان والكون والمجتمع, والربط بين العلم والفن وبين الجسد والعقل والروح والتفكير والشعور والخيال والوجدان.
الدستور المدني الجديد لا بد أن ينص علي مفهوم جديد للتعليم والقيم التربوية والاجتماعية ويربطها بالقيم الثقافية والاعلامية؟.
التعليم الحالي ينتج أتباعا مطيعين( أي منافقين) للسلطة في الدولة والعائلة, يتسم التعليم المصري بالتفرقة الجنسية والدينية والطبقية, تسوده المفاهيم الذكورية والأحكام المسبقة والقيم المزدوجة المتناقضة,
لم تكن في مدرستي الابتدائية طفلة واحدة ترتدي الحجاب عام1942, وحين كنت في كلية الطب عام1954 لم تكن هناك طالبة محجبة, منذ السبعينيات في عصر الرئيس( المؤمن) انتشر الحجاب بين التلميذات رأس الطفلة عورة. فقد أصبحت الطفلة أداة لإغراء الرجل, وزادت حوادث اغتصاب الأطفال والبنات وانتشرت ظاهرة زواج القاصرات, وتضاعف الفساد الأخلاقي مع تصاعد التيارات الدينية السياسية, وزاد التعليم تدهورا وتخلفا عن القرن الماضي, وأصبحت التفرقة الدينية والجنسية هي الأساس. وانخفضت قيمة الثقافة والعلم ودخل الفن ضمن المحرضات علي الفساد.
وانخفضت قيمة التفكير العميق و دخلت الفلسفة ضمن المحرمات المشجعة علي الكفر, زادت غرف الصالونات الفاخرة في البيوت والرفوف المزخرفة بالكتب الدينية المغلفة بالذهب, واختفت الكتب العلمية والفنية والأدبية وإذا لم يشمل الدستور الجديد علي مفاهيم جديدة للتربية والتعليم والثقافة والاعلام فقد تم اجهاض الثورات كلها.