علي محمد فخرو

يحار الإنسان في أمته العربية حتى يصل إلى مراحل الشكوك المحبطة الغاضبة. لنأخذ أحد المواضيع المحيرّة، موضوع عدم القدرة وغياب الإرادة في حسم الأمور الكبرى التي تواجهها الأمة. تمرُ السنون والقرون دون الوصول إلى حسم جمعي، نعم جمعي من قبل الغالبية السًّاحقة من الناس وليس من قبل هذه المجموعة المثقَّفة الصغيرة أو تلك المجموعة السياسية الهامشية.
دعنا نذكٍّر أنفسنا ببعض تلك الأمور التي واجهتها الأمة عبر الخمسة عشر قرناً الماضية، ولنبدأ بفاجعة موت نبي الإسلام صلًى اللُه عليه وسلًم.

ما إن يدفن الجسد الطًاهر حتى ينفجر موضوع خلافة النبي. يبدأ كخلاف سياسي قابل للفهم لينتقل إلى خلافات مذهبية متطاحنة تشقُ الدين الوليد وتأخذه إلى متاهات تتشابك فيها السياسة وأطماع الدنيا بهلوسات غيبيًة وأمراض اجتماعية حتى النخاع.
هذا موضوع في التاريخ، له أسبابه وموجباته وسوء التصرًف بحقَه في حينه. لكن تمرُ القرون والموضوع باق معنا، بنفس وحدًة المشاعر الغاضبة، بنفس الشَتائم الوقحة، دون إدخاله بشكل حاسم كموضوع من التاريخ، دون إخراج لخلاف تاريخي من الإختلافات الفقهية الإجتهادية، لكأن الأمة تريد أن تبقي الموضوع في وعيها الجمعي كلعنة أبديًّة.
لنذكُّر أنفسنا بموضوع ثان. إنه موضوع الملك العضوض الذي دشَّنه الخليفة معاوية. لقد إنقلب ذلك الحدث السياسي إلى قراءة فقهية بعدم جواز الخروج على وليًّ الأمر، بل طاعته حتى ولو كان ظالماً في أمور الدنيا ومصالح العباد، وذلك إتقًّاءً للفتنة.
حسناً، حتى لو وجدنا في ذلك الحين مبرٍّرات لذلك الخوف على الدين الوليد وأمَّته، هل يعقل أن يبقى ذلك الخوف في وعي الأمة الجمعي حتى يومنا هذا ؟ لكنه باق معنا بالرغم من أن ذلك الفهم يتناقض كلياً مع متطلبات قيام الأنظمة الديموقراطية التي اصبحت جزءاً هاماً وعميقاً من الوعي الجمعي الإنساني.
لكأن الأمة تريد بقاء لعنة الإستبداد والحكم الظالم كجزء اصيل من حياتها السياسية إلى الأبد.لو سألت أيُ فرد في بلدان مثل فرنسا أو انكلترا أو مريكا عن نظام الحكم الذي لايمكن أن يقبل بسواه، فان الجواب القاطع هو أنه لن يقبل قط بنظام غير ديموقراطي. تلك الأمم حسمت أمرها مع موضوع نظام الحكم في وعيها الجمعي.
أما عندنا فان الأمر لم يحسم بالرًّغم من أهوال ومخازي ومظالم واستباحات فكر ونظام الملك العضوض.
دعنا ننتقل إلى العصر الحديث. الموضوع في هذه المرة هو الوحدة العربية، وحدة الأمة بمفهومها الحديث ومن ثم وحدة تراب الوطن بالشكل المناسب. يستيقظ ذلك التوق بعد سقوط الخلافة العثمانية، يتجسُّد فكراً وتنظيماً في كتابات وأحزاب وحركات إلى أن يصل إلى قمًّتة في زخم الناصرية الهائل. لقد دخلت آنذاك مشاعر العروبة وآمال الوحدة العربية في نفوس وعقول الملايين وأصبحت جزءاً من عمق الوعي الجمعي العربي.
لكن ترتكب الأخطاء ويموت القائد وتتكالب قوى الخارج والداخل وإذا بذلك الزًّخم يتراجع وترتفع رايات الخصوصية القطرية لتشوية وغواية الوعي القومي الجمعي.
تمَّر أربعة عقود لتنكشف هشاشة التوجٌّه القطري وتصبح جميع الأقطار نهباً للغريب المستعمر والصهيوني وتتعثًر التنمية إلى حدود الفواجع. ومع ذلك يظلًّ الموضوع غير محسوم إلى هذه اللحظة في الوعي الجمعي. وحتى حراكات الربيع العربي الثورية الرافعة للشعارات الكبرى لم تحاول أن تحسم الموضوع في أذهان الملايين من مناصريها وداعميها. لكأنً الأمة استمرأت العيش مع اللعنات لتضيف لعنة التجزئة والتُّفتيت للمجتمعات والأوطان.
القصُّة تطول. هل نذكًّر بمرور قرنين دون حسم للأصالة والحداثة، لإمكانية تعايش المشاعر الوطنية مع القومية مع الإسلامية دون حروب وصراعات، لإمكانية تعايش مشاعر الإنتماء السوسيولوجي للقبيلة والدين والمذهب مع الإنصهار في المواطنة الجامعة، لموضوع تساوي حقوق المرأة الكاملة بتميُزها الطبيعي والنفسي أمام حقوق الرجل الكاملة بتميُزه الطبيعي والنفسي؟
أمام هذا التاريخ من عدم الحسم يطرح السؤال المرعب الآتي نفسه: ترى هل سنضيف إلى تلك القائمة الطويلة من عدم الحسم موضوع الجهاد التكفيري الطائفي العبثي، الذي يقسم الأمة بين مؤيد مصفٍق وإلى رافض مشمئز، والذي شيئاً فشيئاً ينقلب إلى مذهب له منظٍّروه ومحلّلوه وإلى فرق لها داعموها ومحتضنوها؟ ترى هل سيصبح هذا الموضوع لعنة جديدة في حياة الأمة لعدًة قرون أخرى؟ القائمة تطول إلى حدٍّ الغثيان.
موضوع عدم القدرة على الحسم هو مرض نفسي معروف يصيب الأفراد، وله علاج. فإلى متى سيظلُ المفكرون والكتاب والقادة والسياسيون العرب يتلهًون بفلسفات وتقليعات وهرطقات الآخرين دون التركيز والتفرُغ شبه التام لمساعدة الأمة لحسم الخروج من مصائبها؟