عبدالله بشارة

لم أكن أتصور حجم التذبذبات الأمريكية في تعاملها مع الوضع في سورية والتي اقتربت من نهايتها في اختصار المشكلة كلها وبتعقيداتها وبثورة الشعب على نظامها، في بند واحد ndash; أزمة السلاح الكيماوي في مخازن سورية ndash; مع تجاهل حقائق الثورة السورية الممتدة منذ ثلاث سنوات، والتي لها جيش مقاتل، ورئيس يصارع، ورئيس حكومة يناشد.
يأتي كل ذلك بعد أن أقفل التردد والتناقض الباب أمام احتمالات الدعم العسكري للثوار، وبعد أن انحسرت فرص تحجيم النظام السوري عبر ضربة أمريكية رددها الرئيس أوباما كعقاب للجوء النظام للأسلحة الكيماوية، وتحول الانذار بالعقاب إلى تقريع تترجمه القوات الأمريكية بصاروخ يعبر عن امتعاض الرئاسة الأمريكية.
كيف تقلّصت عضلات الإرادة في البيت الأبيض من إعلان رسمي أمريكي بأن نظام الأسد انتهى وعليه الرحيل إلى احتمالات التعايش المطعم بأفراد الثوار في تخريجة تتم عن طريق مؤتمر جنيف في صيغته الثانية.
ولم تعد التهديدات الأمريكية المتكررة قادرة على كسب مصداقية من الرأي العام الدولي، مهما رددت حكومة أوباما بالعزم على تقزيم نظام الأسد، السبب الأكبر ان الرأي العام الأمريكي لا يثق كثيرا بقدرة القيادة على انتقاء القرار المناسب، بعد أن ضاق ذرعا بالتدخلات الأمريكية الخارجية من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق وليتفرع منها الموقف الأمريكي تجاه سورية.
هذا الموقف الامريكي هو موضوع البحث والتنقيب والتحليل عن مسببات الذعر الأمريكي وأبعاد هذا الذعر على الدور الأمريكي العالمي في المساهمة في ضبط الايقاع في مناطق التوترات، وهي واسعة تبدأ من اليابان وتشمل كلا من آسيا والشرق الأوسط وأوروبا ومناطق في أمريكا الجنوبية، ولا ينحصر الذعر في الأوساط الأمريكية وانما تتفرع منه افرازات تتمثل في تردد حلفائها في المشاركة في قرار الضبط والربط الذي كان ملازما للدبلوماسية الأمريكية.
وفي ضوء هذه الحقائق لابد ان نقرأ الوضع في الخليج، منطقتنا صاحبة الموقع الاستراتيجي المميز، والتي تشهد حيوية حراك اجتماعي عام ويحمل غزارة في التساؤلات لاسيما مع نوافير الشباب الذي يطالب بالتطور والتحديث، ويتوقع ولا يقبل بالأمل المخدوع.
وقد راهنت دول الخليج أو معظمها على نجاح مشروع التغيير والتبديل الاقليمي في الاطاحة بنظام الأسد الذي يشكل العائق الأكبر أمام التطوير والتجديد الاقليمي، وبايعت المعارضة السورية ممثلة في القيادات الحالية ودعمتها بالسياسة والدبلوماسية وأهم من ذلك بالمال والخدمات الإنسانية، وتبنت قضاياها في المحافل الاقليمية والدولية، وعززت قوتها بالسلاح، ولعبت الدور المرتفع في الائتلاف الدولي المعارض لنظام الأسد، وتداخلت مع المساعي الأوروبية والامريكية من أجل تحقيق نجاح هذا الائتلاف في اسقاط نظام الأسد، وتأسيس النظام الاقليمي الجديد الذي يتشكل من مبادئ أهمها مركزية الإنسان، وحقوقه ودوره في الحياة والكون، واعتباره الأساس الذي تقف على صلابته وابداعاته الدولة القومية، وهو محور الاندفاع في المواثيق الدولية وفي المعاهدات والاتفاقات بين الدول وأبرزها اعلان حقوق الإنسان في 1948 وميثاق الأمم المتحدة الذي يصرخ، وأول جملة فيه (نحن مواطني العالم قررنا انشاء منظمة الأمم المتحدة من أجل نهاية الحروب والارتقاء بالإنسان).
دول الخليج شاركت في وتفاعلت مع هذا المشروع السياسي الإنساني لأنه يصب في مجرى مصالحها ويدفع بتوسيع دورها وبروز فلسفتها وسيطرة قناعاتها في رسم القرار الاقليمي، وارتبطت مع واشنطن في تحالف استراتيجي تعاقدي وثنائي يضع على الطرفين أعباء ومسؤوليات لا مكان لتجاهلها والتحلل منها.
وبكل المقاييس الإنسانية فان النظام السوري غير مؤهل للاستمرار، فاقد للأهلية وله ادراك ناقص في المفاهيم السياسية الحديثة، ولا يتمتع بقبول شعبي، وحياته مستمدة من الطائفية الضيقة، ومن شبكة المضاربين والمنتفعين الحزبيين، وأهم من كل ذلك حطم الذاتية الوطنية السورية وأذابها في تشكيلات متفرقة ومجزأة وفق مبدأ البقاء بأي ثمن، وفتك بالمعاني الراقية لمفهوم المواطنة.
النظام السوري لا يفهم معاني المسؤولية الأخلاقية الوطنية Ethical Nationalism، التي ترعى قيم الإنسان وحقوقه وتأخذ به إلى المنحى البناء في بيئة الحرية وسيادة القانون، ولم يظهر حساسية تجاه الانفتاح والاعتراف بحق الشعب السوري في الحرية والكرامة وحق التعبير وسيادة القانون والمساواة، بل اندفع في غلو طائفي فئوي في معركة البقاء.
ولا شك بأن الموقف الأمريكي المتردد فرخ لنا تقلبات غير متوقعة، طالت العلاقات الأمريكية ndash; الإيرانية، التي تتخذ الآن شكلا مختلفا عن الماضي عبر مراسلات واحتمال لقاءات قد تمهد لاتفاقات حول المشكلة الكبرى وهي البرنامج النووي الإيراني.
وقد جاءت مؤشرات الانفراج في العلاقات الأمريكية ndash; الإيرانية في أعقاب التردد الأمريكي حول سورية التي يستميت النظام الإيراني من أجلها للحفاظ على موقع النفوذ وبقعة الوصول إلى الجغرافيا الوعرة التي توصل النفوذ الإيراني إلى قضايا فلسطين ولبنان والاردن وربما إلى مصر عبر حماس.
ومهما قيل عن النظام الإيراني فان الدبلوماسية الإيرانية التي امتدت منذ الاطاحة بحكم الشاه هي خليط من الدهاء الفارسي التاريخي والانتهازية الثابتة التي تلاحق المنافع دون اعتبارات للحياء والمجاملات والالتزامات، لكنها لا تضحي بالثوابت القومية الإيرانية، وأبرزها الحصول على السلاح النووي لأن إيران مثل عدد من الدول ndash; دولة مذعورة ndash; من احتمالات العدوان عليها لتبديل النظام فيها، وتردد علنا بأنها تخاف من أسلحة نووية في دول الجوار من الصين إلى روسيا والهند وباكستان وإسرائيل ووجود أمريكي حاشد في الخليج، وتعتقد القيادة الإيرانية بأن النجاة هي في الطوق النووي، ولا تعبأ بالاعتبارات التي نرددها في مجتمعات الخليج وغيرها في دول المنطقة، حول الأخلاقية الوطنية، فلا يهمها الجدل عن القيم المرتفعة في نظام الأمن العالمي، وانما كل المساعي هي لتحقيق المشروع الثوري في توسيع النفوذ الإيراني وملاحقة الولايات المتحدة وحلفائها واخراجها من المنطقة، متحصنة بالستار النووي.
وتملك إيران خزاناً واسعاً من فنون آليات الدبلوماسية الناعمة، نتابعها في المفردات الحديثة التي رافقت الرئيس الجديد صالحي الذي يقدم منظرا إيرانيا مريحا غير الذي كنا نراه مع أحمدي نجاد، وتجيد دبلوماسية إيران فنون استغلال الزخم الذي بدأ يتسيد المنطقة في ضوء حصر الأزمة السورية في مخازن السلاح الكيماوي وفي أعقاب غلاظة الحماية الروسية واندفاعها بتشكيل حلف ثلاثي روسي- إيراني - سوري يسخر كل ما يملك للحفاظ على الوضع الراهن.
وهذا الحديث الإيراني المتفائل واستعادة الارتياح في العلاقات مع الولايات المتحدة لا يمس الثوابت الإيرانية ولا يعرضها للتبديل، وانما هو متابعة للمصالح الإيرانية في الحوارات مع النخب الدولية دون ان يترك أي تأثير على أحلام إيران في تحقيق السيادة الإسلامية الجماهيرية في دول الخليج، وتتربع على المقام العالي في النفوذ الاقليمي.
وماذا عن الجامعة العربية التي اتخذت قرارها التاريخي في ابعاد الممثل السوري واستحضار ممثل قيادة الثورة، وهي خطوة يستحق عليها الأمين العام الصديق نبيل العربي كل تقدير.
فقد سبق أن حاولنا إبعاد نظام صدام حسين الملوث عن الجامعة لكننا لم ننجح لمسببات كثيرة، ولا نريد الآن ان نرى دور الجامعة العربية مختزلا في دعم ما يتفق عليه في كل من موسكو وواشنطن، وليس ذنب الجامعة العربية ان التحالف المؤازر للثورة السورية تعرض للتفكك بعد الخروج الأمريكي من ائتلاف التغيير والتبديل، لكن دورها يبقى المشاركة في التطورات خلال مداولات مجلس الأمن، وفي التأكيد على ان نظام الأسد خسر الحق في البقاء، ليس فقط أخلاقيا، وانما صار محرقة لكل ما يريده الإنسان السوري في هذه الحياة، ولهذا فان اتفاق جنيف في الصيغة الثانية لا تهضم الحضور الرسمي السوري الملوث.
تبقى ملاحظة عن الدور الروسي، فمن خبرتي في متابعة الدبلوماسية السوفييتية في الأمم المتحدة، لا أجد تبدلا في المواقف من أيام السوفييت إلى أيام الروس، من الشيوعية السابقة إلى الراسمالية الجماهيرية الحالية، التي تتبعها موسكو، فجوهر الدبلوماسية الروسية هو تعطيل النفوذ الغربي وتعقيد فرصته في المكاسب وحرمانه من التفوق الاستراتيجي وما زالت الدبلوماسية الروسية تتلاعب بالمفردات في التنظير الخطابي، وكما تصف مسز مارجريت تاتشر القائدة المشهورة بأن الخطاب السوفييتي سابقا والروسي حاليا هو High ndash; Octane Rhetoric.
تأتي الاضطرابات في العالم من الدولة المذعورة التي لها مشروع توسعي وتملك النفوذ وتتحصن بالقوة المدمرة، ولعلنا نتذكر تجربة العالم مع ألمانيا المذعورة في عهد هتلر.