فايز رشيد

أسباب عديدة محلية وإقليمية ودولية أدّت إلى تراجع صدارة القضية الفلسطينية عن دائرة الاهتمام الأولى، بالمقابل هناك شبه غياب دولي عن كافة التعديات ldquo;الإسرائيليةrdquo;، حيث يتحرر الاحتلال شيئاً فشيئاً من ضغط المساءلة: في ما يتعلق بخطواته الاستيطانية المتسارعة، وتهويد القدس، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي يجري قضمها في كافة المناطق المحتلة: منطقة عام 1948 فقد جرت مصادرة أراضٍ في النقب، وفي منطقة عام 1967 إذ يجري حالياً إلقاء القبض على مناطق شاسعة في غور الأردن . على صعيد آخر، ldquo;إسرائيلrdquo; تفرض وقائع على الأرض ستصبح بعد فترة(حقائق) لا يجوز النقاش حولها، والحصيلة تآكل متدرج للحقوق الوطنية الفلسطينية . في الأسباب المحلية الفلسطينية يمكن إعادة التراجع إلى الأسباب التالية:

* أولاً: تراجع السلطة الفلسطينية عن شروطها التي كانت قد وضعتها لعودة المفاوضات مع العدو الصهيوني . فعملياً، تراجعت عن كل ما وعدته سابقاً وذهبت للتفاوض حتى في ظل اشتراطات جديدة للعدو الصهيوني، كالاعتراف ب ldquo;يهودية ldquo;إسرائيلrdquo;rdquo; .

ورغم تعنت هذا الكيان لم تقطع السلطة المفاوضات، واستمرت فيها . هذه القضية تؤدي خدمات كثيرة وكبيرة للعدو وفرض المزيد من شروطه على الفلسطينيين، فالتنازل بالضرورة يقود إلى تنازلات أخرى، والتشدد الصهيوني أدى دوره، وعاد المفاوض الفلسطيني مغلوباً على أمره . من ناحية ثانية فإن عودة المفاوضات توحي دولياً بأن الحركة السياسية بين ldquo;إسرائيلrdquo; والفلسطينيين قائمة، بمعنى أن هناك تفاؤلاً فلسطينياً في هذه المفاوضات، وإمكانية أن تسفر عن حل، ولذلك فما الداعي للتدخل الخارجي؟ أيضاً فإن بعض الخطوات الأوروبية التي كانت في طريقها إلى التطبيق، مثل المقاطعة الاقتصادية لمنتوجات المستوطنات، ومقاطعة العديد من المؤسسات التعليمية البريطانية (وغيرها من الدول) للجامعات ldquo;الإسرائيليةrdquo;، قد توقفت في منتصف الطريق، بعد العودة الفلسطينية الرسمية إلى التفاوض .

* ثانياً: الانقسام الفلسطيني سياسياً وجغرافياً إضافة إلى مأزق السلطة الفلسطينية في رام الله وسلطة غزة، الأولى بسبب حشر نفسها في زاوية المفاوضات كخيار استراتيجي وحيد، وتنصلها من المقاومة وبخاصة المسلحة، وهذا النهج هو الوحيد القادر على إجبار الكيان الصهيوني على الاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية . ليس ذلك فحسب بل ملاحقة المقاومين (وتتقاطع معها سلطة حماس في هذه القضية بعد هدنتها الطويلة المعقودة مع العدو الصهيوني) وزجهم في المعتقلات السلطوية . أما مأزق حماس فهو الورطة التي أوقعت نفسها فيها، فهي راهنت على استمرار حكم الإخوان المسلمين في مصر إلى ما لا نهاية، ووقفت موقفاً سلبياً من التغييرات الثورية التي جرت في مصر في الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي، وفي الثالث من يوليو/تموز (إزاحة محمد مرسي عن الرئاسة) حيث اعتبرتها حماس (انقلاباً) مثل مواقف كل الإخوان المسلمين في جميع أنحاء العالم، وجعلت من فضائيتيها مجالاً لأطروحات حزب الحرية والعدالة في مصر، وتقوم بتقديم خدمات لوجستية وعسكرية (وفقاً للمتحدث الرسمي للجيش المصري) للقوى المناهضة للتغييرات الثورية في مصر .

في تقديرنا، إن الأسباب الفلسطينية هي العامل الأول الحاسم في تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية على المستويات المتعددة، فلو كانت الأوضاع الفلسطينية عكس ما هي عليه الآن، لما كان أوسلو، ولكانت الوحدة الوطنية الفلسطينية قائمة، وتم تجاوز الانقسام، والتمسك المطلق بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، والعمل يجري على قدم وساق لبدء انتفاضة شعبية فلسطينية جديدة، ولما كان هناك أي تنسيق أمني مع ldquo;إسرائيلrdquo; .

لو كان هذا الوضع الافتراضي قائماً، لعاد الألق للمشروع الوطني الفلسطيني(الذي تراجع عقوداً عديدة بفعل اتفاقات أوسلو المشؤومة والانقسام وغيرها من العوامل) وللحقوق الوطنية الفلسطينية . هذا الوضع المفترض، سيشكل بؤرة لاستقطاب العامل القومي الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج، وكذلك للقوى الحليفة للشعب الفلسطيني على الساحة الدولية .

هذا الوضع الافتراضي ليس خيالاً بل هو الوضع الطبيعي لمطلق حركة تحرر وطني، أو حركة مقاومة للعدو المغتصب لإرادة الشعب والمحتل لأراضيه، هو الوضع المفترض أن تكون عليه الساحة الفلسطينية باعتبارها مازالت حركة تحرر وطني، وبحاجة إلى نضال طويل لنيل حقوق شعبها الذي يملك الاستعداد للتضحية (مثلما قدم التضحيات طوال قرن مضى) في سبيل انتزاع حقوقه الوطنية .

في الأسباب الإقليمية يمكن القول:إن الإرهاصات التي تعج بها أكثر من دولة عربية، والحراكات الشعبية العربية الداخلية في هذه الأقطار، استحوذت على معظم انتباه أبناء الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، الأحداث في مصر وانعكاساتها على العديد من الدول العربية الأخرى . والأحداث في سوريا وقضية السلاح الكيميائي السوري، والصراعات الداخلية فيها . وموجة التفجيرات الممتدة إلى فترة طويلة في العراق، والصراعات العديدة فيه، وفي السياق نفسه تأتي أحداث اليمن وليبيا وتونس والسودان . كل هذه الأحداث لا يشك أحد في أصالة حركتها، لكن التآمر الغربي والأمريكي خاصة أدّى

إلى قطف هذه الحركات بطريقة مغايرة لما أرادته جماهير أمتنا .

هذه الأحداث ساهمت وإن بشكل غير مباشر في تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي ظلّت لعقود طويلة تحتل المركز الأول في سلّم اهتمامات المواطن العربي .من زاوية

أخرى ليس المطلوب من الجماهير العربية أن تكون ldquo;ملكية أكثر من الملكrdquo; فما دامت القيادة الرسمية الفلسطينية اختارت طريقها التفاوضي، فماذا ستقول الجماهير العربية والحالة هذه؟ ما نعتقده، أن الجماهير العربية رغم كل أحداث بلدانها الداخلية فإن القضية الفلسطينية ستظل أولوية مركزية بالنسبة إليها .

في الأسباب الدولية إن الموقف الأمريكي المنحاز للعدو الصهيوني قلباً وقالباً، يمارس الضغوطات على القيادة الرسمية الفلسطينية، هذه التي استمرأت السلطة (من دون سيادة) والتي أصبح لها مصالح في هذا الوضع من الصعب عليها إن لم يكن من المستحيل العودة بها إلى وضع (قيادة ثورة) . هذه القيادة لا تزال تؤمن بإمكانية ضغط قد تقوم به الإدارة الأمريكية على حليفها ldquo;الإسرائيليrdquo; .

هذه السلطة لا تستفيد من الدروس التي مرّت بها وتعتقد أن من الممكن أن تكون الولايات المتحدة ldquo;وسيطاً نزيهاًrdquo; في الصراع الفلسطيني العربي-الصهيوني . كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة يزاود بعضها على الآخر بالأكثر ولاء للدولة الصهيونية، هذه الإدارات هي ناقل أمين لوجهات النظر ldquo;الإسرائيليةrdquo; وتمارس الضغوطات على الفلسطينيين والعرب من أجل إبداء التنازلات لrdquo;إسرائيلrdquo;، والقبول بالتسوية الصهيونية .

هذه الأسباب مجتمعة هي التي أدت إلى تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية وإلى تحرر الاحتلال من ضغط المساءلة .