علي حسين باكير

يعتبر كتاب المؤلف جين شارب بعنوان laquo;من الديكتاتورية إلى الديمقراطيةraquo; من أهم الكتب المفتاحية والإرشادية على الإطلاق فيما يتعلق بطرق ووسائل الإطاحة بالديكتاتوريات، ويقدم الكتاب إطاراً تصورياً للتحرر من الأنظمة الديكتاتورية بطرق لا عنفية متصاعدة حتى تصل إلى مستوى الثورة.
في الفصل التاسع العاشر من الكتاب، يقول جين شارب عن احتمال عودة الديكتاتورية بعد الإطاحة بالنظام الديكتاتوري السابق وقبل ولادة نظام ديمقراطي جديد: laquo;يرى بعض الأفراد والجماعات في سقوط النظام القمعي فرصة ليصبحوا هم الأسياد الجدد، وقد تختلف دوافعهم ولكن غالبا ما تكون النتائج متشابهة، بحيث يصبح نظام الحكم الديكتاتوري أشد بطشاً وتحكما من النظام الديكتاتوري القديمraquo;.
ويضيف شارب: laquo;يسعى منفذو الانقلاب إلى طلب غطاء شرعي يوفر لهم القبول فوراً بعد بدء الانقلاب، ثم يطالب منفذو الانقلابات القادة المدنيين والمواطنين بأن يكونوا داعمين أو منحازين لهم، ثم يطالبون بتعاون المستشارين والبيروقراطيين وموظفي الحكومة والقضاة، وذلك من أجل ترسيخ سيطرتهم على المجتمع الذي وقع فيه الانقلاب، ثم تأتي مطالبتهم بخضوع الأشخاص الذين يعملون في النظام السياسي ومؤسسات المجتمع والاقتصاد والشرطة والجيش وتنفيذ أعمالهم المعتادة حسب التعديلات التي تفرضها أوامر وسياسات منفذي الانقلابraquo;.
تعتبر هذه الفقرات المنشورة في الكتاب عام 2002 بمثابة توصيف دقيق لسياسة السيسي بعد انقلابه، لا يعني ذلك أن الكاتب منجم، وإنما يعني أن أساليب الديكتاتوريين والانقلابيين واحدة ويسهل توقعها خاصة إذا كانوا من العسكريين نظراً للخط الذي يجمع بينهم.


لا أعتقد أن السيسي قرأ laquo;جين شاربraquo; قبل الانقلاب، فهو يأتي من سليل نخبة عسكرية واستخباراتية دأبت على حكم مصر منذ أكثر من 60 عاما، وبالتالي فإن تصرفات هؤلاء إنما تنبع من احتكارهم الدائم لممارسة السلطة الفعلية وسيطرتهم الدائمة على موارد البلاد واستعراض سلوكهم ونفوذهم الديكتاتوري على المجتمع.
وعليه فإن ممارسات هؤلاء لا تأتي نتيجةً لتراكمات معرفية بقدر ما تأتي نتيجةً لتصوراتهم عن موقعهم ودورهم الذي يستمد قوته من موقعهم العسكري وممارساتهم التعسفية. ولأنهم غالباً ما يفشلون في أداء مهامهم الأساسية في اختصاصهم الأساسي ألا وهو حماية حدود الدولة ومصالحها في الخارج من أعدائها، فإنهم يجنحون إلى استخدام قوتهم على الضعفاء من أبناء بلدهم، وتتحول وظيفتهم الحقيقية بالتالي من حماية البلاد ضد الأعداء والمخاطر الخارجية إلى حكم البلاد والعباد تحت حجة حمايتها من الأعداء، وإن اقتضى ذلك قهر من يقولون: إنهم يدافعون عنهم مقابل عقد صلح مع الأعداء الحقيقيين لتغطية العورة الموصوفة الناجمة عن افتراض قيامهم بالعكس!
المعادلة بسيطة، تماما كما الزوج الفاسد، فبدلا من أن يكون مسؤولا عن عائلته بما يفرضه ذلك من متطلبات والتزامات، يتحول laquo;الذكرraquo; هنا إلى ضرب زوجته وأولاده وممارسة كافة أنواع العنف عليهم نظرا للنقيصة الذاتية، وغالبية الجيوش العربية مارست هذا النوع من السياسيات على شعوبها للتغطية على فشلها الكبير في القيام بدورها الحقيقي خلال عقود طويلة.
الديكتاتوريات العربية الحديثة هي الأسوأ على الإطلاق لأنها تأتي مركبة ولا تترك بلدانها إلا بعد خرابها الكامل ودمارها الشامل كما يعلمنا الواقع، فسياسة هؤلاء لم تقتصر على ممارسة السلطة والسيطرة على الأجهزة الأمنية والشرطية فقط، وإنما تضمنت أيضا التلاعب بالتركيبة الديمغرافية وإثارة النزعات العرقية والطائفية والمذهبية واستخدام ورقة الأقليات وتأليب مكونات المجتمع على بعضها البعض وامتصاص قدرات البلاد الاقتصادية والمالية ونهبها وتوزيعها على الحاشية والتأسيس لغياب العدالة الاجتماعية واستعباد الشعوب وابتزازها واستغلالها، والتأسيس لقضاء حسب الطلب، وتوظيف الدين لتخريج المتطرفين والطائفيين من جهة ولتشريع حكمهم اجتماعيا من جهة أخرى رغم جهرهم قولا وفعلا وممارسة بعدائهم للدين أو على الأقل فصله عن الدولة.
وإن كنا خبرنا ونعرف السياسات التي يتبعها الديكتاتوريون العرب جيدا والتي تعد بمثابة الدليل المقدس بالنسبة إليهم جميعا، فإن توقع النتائج التي ستنجم عن هذه السياسات ليست بالأمر المستحيل أيضاً. إذا بقيت الأمور على ما هي عليه في مصر، مع إصرار الانقلاب على سياساته فإننا ذاهبون إلى سيناريو تدمير مصر، فإنه ليس مادياً كما يفعل الأسد فإنما اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا ومعنوياً. وإن كان البعض يعتبر أنه شهد في مصر ثورات، فإن عليه الانتظار حتى حينه ليرى الثورة الحقيقية.


لطالما فشلنا كعرب في الاستفادة من دروس الماضي وما قدمه لنا التاريخ لنأخذ منه العبر سواء من تجارب الآخرين أو من تجاربنا التي دفعنا ثمنها غاليا على كافة المستويات، وها هي السنوات والعقود تمر وتمر ونعيد تكرار نفس الأخطاء ونفس السياسيات وكأنما نستذكر ما حصل لنعيده لا لنتجنبه. والتاريخ يقول لنا: إنه ما من انقلاب عسكري وإلا وحمل معه الخراب والدمار وترك ندبه السوداء على البلاد والشعوب.
الوضع المصري صعب جدا، وما لم يتم التوصل فيه إلى مصالحة تتضمن محاسبة كل من ارتكب جرما أو جريمة، فإننا سائرون نحو الأسوأ. لن يصمد الانقلاب إلى ما لا نهاية، فهزيمته تعتبر أمراً ممكناً كما يقول laquo;جين شاربraquo; وإن بدت مستحيلة كما كل الديكتاتوريين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، ما هي التكلفة؟ وعلى حساب ماذا؟ حتى يقتنع هؤلاء أن هذه السياسات لا توصل إلا إلى سيناريوهات أفضلها أسود اللون.