خيري منصور

هل يمكن لعشر دقائق فقط من خطاب سياسي أن تختزل علاقة إشكالية انتهت دراماتيكياً بين الزعيم الراحل عبدالناصر والإخوان المسلمين؟

بالطبع لا، فالإحاطة بحيثيات وتفاصيل وتحولات هذه العلاقة تتطلب أطروحات أكاديمية، لا تركن فقط إلى المسموع والمتداول بل تعود إلى الوثائق والشهادات ومجمل مرجعيات تلك المرحلة، لكن العشر دقائق التي أعادت القنوات الفضائية المصرية بثها من خطاب لعبدالناصر بدت كما لو أنها من هذا الزمن بل من هذا الأسبوع إن لم تكن من هذا اليوم وهذه الساعة .

يقول عبدالناصر إنه عندما التقى مرشد الإخوان يومئذ سمع منه ما أثار دهشته، فقد طالبه بفرض الحجاب على جميع النساء في مصر، ولأن عبدالناصر لم يكن قادماً من برج عاجي وهو من صميم الطبقة الوسطى المصرية، فقد فاجأ المرشد بقوله إن له ابنة في كلية الطب وهي سافرة، فإذا كان المرشد عاجزاً عن فرض الحجاب على امرأة واحدة فكيف يطالب عبدالناصر بفرضه على عشرة ملايين امرأة؟

هذا ما أجاب به عبدالناصر كما قال وهو يبتسم، ثم أضاف أن المرشد طلب منه إغلاق دور السينما والمسرح وحظر الأنشطة الفنية .

فأجابه عبدالناصر بالحرف الواحد . . أنت تريدها ظلمة . . ثم اتسعت الدقائق العشر ليعد عبدالناصر سلسلة من المواقف بدأت بمحاولة اغتياله في المنشية بالإسكندرية، وقال إن هذا ليس سبباً كافياً لاتخاذ موقف صارم من الإخوان، فإذا اغتيل عبدالناصر فثمة ألف رجل يمكن أن يحلوا مكانه لكن ما يجري كما قال بالحرف الواحد هو اغتيال شعب، وهذه الجملة هي بيت القصيد في الدراما كلها، فاغتيال القادة أمر معروف ومتكرر في التاريخ وقد جربته مصر منذ اغتال الإخوان النقراشي باشا حتى حادث المنصة الذي اغتيل فيه السادات .

وكان يمكن لعبدالناصر ذاته أن يكون ضحية اغتيال مماثل في المنشية .

ولم يُنهِ رحيل عبدالناصر الرواية، وإن كان الرجل بما تمتع به من حصافة لم يقل ما قاله السادات عن أحد قادة الإخوان قبيل اغتياله فقد قال: إنه الآن مرمي في السجن، لن نقول ما أشبه الليلة بالبارحة، لأن الليلة هي ذاتها البارحة، فالمسرح هو نفسه والخشبة التي تدور عليها الأحداث لم تتغير وهي مصر، أما الشخوص فقد تبدلت أسماؤهم، ولم تحدث أي تغييرات في السيناريو عبر طبعاته المتكررة .

وقد يتساءل البعض عن مغزى استذكار عبدالناصر هذه الأيام وبث مقتطفات مختارة بعناية من خطاباته .

وسيبقى المجال فسيحاً للتأويلات تبعاً للنوايا والرغائب، لكن ما لا يقبل التأويل على الإطلاق هو أن دولة متمدنة قادت التنوير والتحديث منذ قرنين على الأقل في المنطقة، لا تقبل أن تعود عقارب ساعتها إلى الوراء . . إلى ما قبل الدولة وما قبل الحداثة وما قبل الاستقلال .