عبد الله بن بجاد العتيبي

منذ اشتداد الأزمة السورية، بعد أشهر من انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد نظام بشار الأسد في 2011، وعدد من المراقبين يحذرون من أن بقاء الأزمة من دون حسم أو تدخل خارجي سيفرّخ بشكل طبيعي تنظيمات عنف ديني كتنظيم القاعدة.

التفجيرات والعمليات التي حدثت في العاصمة الكينية نيروبي، الأسبوع الماضي، تخبرنا أن التغاضي عن مناطق الاضطرابات التي تسيطر عليها القوى الأصولية خطأ استراتيجي تجاه خطر محدق لا يطال تلك المناطق فحسب، بل ينتقل إلى دول الجوار وإلى العالم أجمع؛ فالجماعات الأصولية لم تزل ترتع في الصومال منذ سنين، ولم يسعَ أحد بشكل جدي لإيجاد حل جذري لها، وها هي بعد تفجيرات 1998 في نيروبي ودار السلام تعود في 2013 إلى نيروبي مرة أخرى.

وتنظيمات العنف الديني في سوريا كـlaquo;جبهة النصرةraquo; أو laquo;دولة العراق والشامraquo; (داعش)، تمارس كل أنواع الجرائم والإرهاب ضد المدنيين السوريين وضد كتائب الجيش الحر وضد الائتلاف الوطني السوري، الممثل السياسي للمعارضة السورية، وهي لن تبقى إلى الأبد داخل الحدود السورية، ولكنها ستنطلق يوما من هناك لعمليات تطال الإقليم، وربما العالم، إن لم تُحل المشكلة السورية بطريقة تضمن القضاء على هذه الجماعات الإرهابية المجرمة.

الجماعات الأصولية؛ سواء كانت تخلط العنف الديني بالسياسة، كجماعات الإسلام السياسي، أم كانت مخلصة لوجه العنف الديني على الأقل مرحليا، كتنظيم القاعدة والتنظيمات أعلاه بسوريا، يجمعها أمر واحد، هو أنها لا تعترف بأي محرمات دينية أو شرائع إنسانية دولية؛ فهي ترتكب في سبيل غايتها الموبقات الدينية بأنواعها، فتستحل الدم الحرام وترتكب الفظائع التي تشوه كل شيء طاهر من الدين الإسلامي إلى الشعب السوري ومطالبه المستحقة.

ما قد يغيب عن غير المتابع أن تنظيم القاعدة لديه تاريخ طويل من التحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران، ولذلك فليس غريبا أن هذا التنظيم في تاريخه لم يتعرض للجمهورية الإسلامية بشيء يضرها حتى في ذروة نشاطه في العراق، قبل خروج القوات الأميركية، إنما كانت عملياته تجري حتى ضد الشيعة بما يخدم السياسات العليا لإيران، وحين حاول أبو مصعب الزرقاوي الخروج عن الخط المرسوم، أرسل له الرجل الثاني آنذاك في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري يحذره من التعرض للشيعة، ويعيده للحلف القائم، ومن هنا فليس غريبا أن تكون كل عمليات laquo;جبهة النصرةraquo; وlaquo;داعشraquo; موجهة لخدمة أهداف إيران وحليفها نظام الأسد، وذلك بضرب كتائب الجيش الحر في الرقة وإدلب وحلب، والتفنّن في تقتيل المواطنين السوريين إما تحت شعار طائفي يستهدف المسيحيين ودور عبادتهم التي كانت محمية منذ صدر الإسلام، حيث كان الجامع الأموي مقسوما لنصفين؛ نصفه مسجد، ونصفه كنيسة، وإما تحت شعارات آيديولوجية تستبيح بها قتل النساء والأطفال والشيوخ.

جماعة الإخوان المسلمين هي المنبع الرئيس للإرهاب الديني المعاصر، إنْ من حيث الممارسة مع التنظيم السري، وإنْ من حيث الخطاب، ومع الاعتراف بالاختلافات أحيانا بين الطرفين في الواقع المعاصر، إلا أنهما لا يلبثان أن يعودا للتحالف من جديد، وهو ما ثبت في مصر وتونس وليبيا ما بعد 2011.

إن تجريم العنف الديني في سوريا ليس مقتصرا بطبيعة الحال على جماعات العنف الديني في وجهها السني، ولكن في وجهها الشيعي كذلك، بحيث يُدان بالقدر نفسه حزب الله اللبناني في سوريا، والجماعات العراقية والحرس الجمهوري الإيراني، فالطرفان وجهان لعملة الإرهاب الديني.

من جهة أخرى، نستطيع رصد بعض الدول الأصولية في عالمنا المعاصر، فمنها دولة طالبان غير المأسوف عليها، ومنها في هذا السياق الدولة الإيرانية والدولة السودانية التي يقودها الإخوان العسكر، والحكومة الأصولية التي يقودها laquo;الإخوانraquo; في غزة. ومحاولات laquo;الإخوانraquo; للسيطرة على مصر، التي باءت بالفشل.

في الخرطوم ثارت، الأسبوع الماضي، احتجاجات واسعة ضد حكم الإخوان هناك، وقد قوبلت تلك الاحتجاجات كما ينبغي لنظام أصولي أن يفعل؛ فهو منذ وصوله، عبر انقلاب عسكري قاده حسن الترابي ونفذه عمر البشير، أخضع الشعب السوداني لحكم تسلطي، ودمّر الاقتصاد السوداني، وتسبب في انقسام السودان لدولتين، وما تبقى منه تحت حكم laquo;الإخوانraquo; يفتش عن طريق للخلاص في دارفور، وصولا للخرطوم، وربما كان فيما جرى بمصر ما يمنح أملا في مستقبل بلا laquo;إخوانraquo;.

وعودا على بدء؛ فلم تزل المواقف الدولية غير حاسمة تجاه ما يجب فعله تجاه الأزمة السورية؛ فباستيعاب خضوع الولايات المتحدة لخارطة الطريق الروسية، وانكشاف عجز إدارة الرئيس أوباما عن توجيه أي عقاب لنظام غاشم قطع كل خطوطها الحمراء، وقابلته بتهديدات بضربة محدودة ومحددة، ثم تراجعت عنها، مما يمكن أن يمنح قدرة أكبر على فهم طبيعة المفاوضات التي تجريها الإدارة الأميركية مع إيران.

دخل أوباما المفاوضات بتقديم تنازلات بلا مقابل، فلأول مرة منذ الثورة في إيران، اتصل أوباما بالرئيس الإيراني الجديد والتقى وزير خارجيته جون كيري بنظيره الإيراني، والإيرانيون معروفون بحسن المماطلة والصبر على الغوص في متاهات التفاصيل. أما وقد اختبروا عزم أوباما في سوريا، فهم الآن يشعرون بارتياح في مواصلة وتسريع العمل على برنامجهم النووي خلال الفترة المتبقية من حكمه حتى يستطيعوا فرض شروطهم على من يأتي بعده، فهم لن يمنحوه أي حل، وهو سيمنحهم الوقت.

استبقت إيران تلك المفاوضات في الأمم المتحدة بخطبة لطيفة ومقلمة الأظفار لحسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني الذي يقاتل في سوريا، بحيث بدا فيها ضعيفا ومهزوزا، وابتعد عن لغة التهديد والوعيد والاستعداد للذهاب بنفسه للموت في سوريا، وهي تأتي اتساقا مع التوجه الإيراني الجديد لا في السياسات والاستراتيجيات، بل في لغة الخطاب فحسب.

منذ وصول السيد حسن روحاني للحكم في إيران، وهو يوجه رسائل الود لأميركا وللغرب وللسعودية، وفيما يبدو أن إدارة أوباما ابتلعت الطعم، فإن السعودية ودول الخليج والأردن لم تزل تتذكر لعبة الجمهورية الإسلامية المتكررة بين صقر وحمامة في رئاسة الجمهورية ينفذان سياسة واحدة لمرشد أعلى واحد.

أخيرا، فكما أنه laquo;ما من حاجة لتكون قيصرا حتى تفهم القيصرraquo;، فإنه ما من حاجة لأن تكون أصوليا حتى تفهم الأصوليين.