محمد خليفة


الأفكار الأحادية التي تعبّر عن شوفينية مفرطة لا تعيش أبداً مهما طال بها الزمن، وإذا عاشت فإن ذلك يكون لفترة محدودة، ذلك لأن الاختلاف والتنوع سنة إلهية في الأفراد والأمم والجماعات، فهناك أنواع متعددة من البشر الذين يعيشون في طول الأرض وعرضها ويتحدثون لغات شتى، ويؤمنون بمعتقدات لا حصر لها، وكل ذلك يؤكد أن التنوع هو أساس هذا الوجود .

لكن بعض الحركات والأيديولوجيات حاولت أن تلغي هذا التنوع، وأن تبني أمجادها وفق فكر لا ينتمي لأرض الواقع بأي صلة . لقد شهد القرن العشرون صعود الأيديولوجيات الشمولية إلى أقصى حدٍ يمكن أن تبلغه من خلال الفلسفات الشيوعية والنازية والفاشية، ولقد تسببت هذه الأيديولوجيات في إبادة الإنسان في كل مكان حلت فيه، وتمكنت منه؛ فما كان لها مفكروها، كان لها كذلك للأسف جزّاروها، ولعل في النازية أبلغ مثال على ذلك . فقد كان الشعب الألماني بعد الحرب العالمية الأولى، محطماً من جراء الهزيمة، والديون التي فرضها الحلفاء المنتصرون عليه . وقد وجد هذا الشعب في الحزب الاشتراكي الوطني/ النازي، بصيص أمل لإخراجه مما كان يعانيه، ونجح هتلر في تقديم حزبه كمشروع حضاري نهضويّ للأمة الألمانية، بعد أن تساهل الشعب الألماني مع الحزب النازي المتطرف، ولكن ما إن وصل الحزب إلى السلطة عام 1933 حتى بدأ في تطبيق أفكاره القائمة على تقديس العرق الألماني، واعتباره أفضل الأعراق، وعلى اختصار الأمة في شخص الزعيم الفوهرر . واعتبار العالم كله مجالاً حيوياً للشعب الألماني، كما تم إحياء تقاليد وعبادات القبائل التوتون أسلاف الشعب الألماني، وجعل الصليب المعقوف ldquo;السواستيكاrdquo; الذي كان رمزاً لتلك القبائل، رمزاً أيضاً للأمة الألمانية . فلا مكان للمسيحية في ألمانيا النازية؛ لأنها ديانة قادمة من عرق أحط من العرق الآري الألماني .

وتم دفع الشعب الألماني إلى أتون الحروب، والاعتداءات المتكررة على الدول الآمنة المجاورة، وما كان يمكن إيقاف ذلك الجنون إلا بحرب عالمية أزهقت أرواح أكثر من 60 مليون إنسان، وتسببت بدمار وخراب شمل أكثر من نصف العالم . وذلك نتيجة تشجيع الشعب الألماني للحزب العنصري الذي وصل إلى السلطة .

والآن، وبعد مرور أكثر من 70 عاماً على تلك المآسي المفجعة، يُكرر ldquo;تنظيم القاعدةrdquo; نفس الأهداف، ويستلهم أفكار العصور الوسطى القائمة على أساس دار الإيمان، ودار الكفر من أجل إشعال الحروب الدينية بتوجهاته وأيديولوجياته المتطرفة، والتي تدعو إلى القتل على الديانة، وإرهاب المخالف فكرياً، ومذهبياً، وحتى تنظيمياً . مما يثير الفتنة باسم الدين، فباسم الدين وما أسماه من دين!- يقهرون الحياة، ويكبتون استعدادات الطبيعة الفطرية للإنسان عموما، من دون الأخذ في الاعتبار أن للمجتمعات، حساباتها، وللإنسانية اعتبارها، وللأهداف العليا للدين قيمتها، التي تتقرر إلى جانبها التبعية الجماعية التي تشمل الفرد والجماعة، فيما يُعرف في الشرع الحنيف بفرض العين، وفرض الكفاية . فالأول التزام فردي، والثاني التزام مجتمعي، فهو يشمل التكافل في كل صوره وأشكاله؛ فهناك التكافل بين الفرد والجماعة وبين الأمة والأمم، فالإنسان مكلف بتعمير مجتمعه، وفي الوقت ذاته أن يمتع نفسه في الدنيا في الحدود التي تفسرها الفطرة، لا أن يتحول إلى وقود ليخرب المجتمع، ويقتل الأبرياء من دون ذنب، والتي تنشأ عن التصورات الخاطئة والمعتقدات المتطرفة، والتي-للأسف يتم تسويغها دينياً، وإلباسها ثوب الفتوى، والدين منها، وممن أفتوا بها براء، فأي دين يبيح ما ارتكبه مسلحو الدولة الاسلامية في العراق والشام من وحشية بحق طيار سوري، كانت المقاتلات التركية قد أسقطت طائرته فوق الأراضي السوري؛ حيث قام عناصرها بقطع رأس الطيار السوري، وذلك بعد أن سقط بمظلته في منطقة خاضعة لسيطرتهم . ولم يكتفِ هؤلاء بجريمتهم، بل نشروا صورة ومقطع فيديو يظهر ما ارتكبوه بحق الضابط الأسير، والسؤال أليس ذلك سفكاً للكرامة الإنسانية - هل هذا السلوك يُشرف الإسلام، أو يزيده رفعة، ما فعله هؤلاء القتلة؟!

كذلك قامت مجموعة إرهابية من الذئاب البشرية في تونس بقطع رؤوس بعض الجنود التونسيين، بعد أن نصبت لهم كميناً، وأطلقت عليهم النار، بجبل الشعانبي . وقريباً من هذا الجرم يوم الإثنين الماضي شنت حركة الشباب المجاهدين الصومالية المتطرفة هجوماً على مركز تجاري وسط العاصمة الكينية نيروبي وقد قتل نحو 68 شخصاً وجرح 200 شخص، ومنذ انهيار الدولة الصومالية عام 1992 أصبحت أرض الصومال مجالاً رحباً للإرهاب، وسرعان ما ظهرت فيها التنظيمات المتطرفة المرتبطة بالقاعدة أو تلك التي تعتنق الفكر السلفي المتشدد وتمتهن هذه التنظيمات القتل؛ فالأبرياء الذين قتلوا في هذا الهجوم الغادر ليسوا سوى جواز عبور لأولئك المتطرفين لما يسمونه الجنة، فالطريق الوحيد للوصول إلى هناك يمر عبر قتل الأبرياء وتخريب الممتلكات وإشاعة الخوف بين الناس في كل مكان من الأرض .

إن الإجراءات الأمنية التي اتخذتها بعض الدول العربية هي من صميم دور الدولة، فلا مجال الآن للتطرف والمتطرفين أن يعيشوا في مجتمعات تقدس الحرية

المسؤولة . وتؤمن بالتنوع في الثقافات والأفكار، وحق الجميع في أن يعيش تحت سقف وطن واحد شعاره الأمن والحرية والمساواة .