أحمد عبد المعطي حجازي

أقفrlm;,rlm; ونحن نتأهب للاحتفال بالعيد الثالث لثورة الخامس والعشرين من يناير ـ أقف أمام تاريخنا أنظر فيه منذ بدأ في الألف الرابع قبل الميلاد

حتي اليوم أسأل نفسي وأسأل من يريد أن يشارك في الإجابة: هل حدث من قبل أن مرت بلادنا بما مررنا به خلال الأعوام الثلاثة الماضية, ولانزال نمر به ونعيش فيه اليوم وغدا وبعد غد؟.
هل زلزلت الأرض زلزالها في مصر, كما حدث في الخامس والعشرين من يناير, وفي الثلاثين من يونيو؟.
ومن البلاهة والسذاجة وقصر النظر أن يختصر البعض ما صنعناه في خلع رئيس أو يقيس ما حدث عندنا بما يحدث في أي بلد يخرج فيه الناس ضد السلطة الحاكمة أو ضد النظام القائم وينجحون في إسقاطه وإقامة نظام بديل أو حكومة أخري.
لا, وإنما الذي حدث عندنا شيء آخر مختلف تماما لا نستطيع أن نعرفه وندرك أبعاده ونسميه اسمه الحقيقي إلا إذا نظرنا في تاريخنا كله لنري كيف فهمنا السلطة, وكيف تعاملنا معها, وكيف حددنا لها وظيفتها؟ وما الذي نشترطه فيها ونطلبه؟ وما الذي يمكن أن نتنازل لها عنه ونتسامح فيه؟.
وسوف أنتهز هذه الفرصة لأذكر القراء الأعزاء مرة أخري بأننا نحن المصريين لا نعرف تاريخنا.. ليس فقط لأن نحو أربعين في المائة منا ـ أكثر من ثلاثين مليونا ـ لايقرأون ولايكتبون, ولكن لاننا كلنا, الأميين وغير الأميين, نتعلم منذ طفولتنا أن نكره تاريخنا, وأن نتبرأ منه, فنحن في التاريخ نتلقي الدروس من العبرانيين الذين كتبوا تاريخنا, كما تحلو لهم كتابته واختصروه في قصة موسي وفرعون التي أصبحت مقررة علينا منذ جاءت في التوراة.. كأن هذه القصة هي كل تاريخنا, وكأن فرعون موسي هو كل الفراعنة, وكان موسي لم يولد في مصر, ولم ينشأ فيها, ولم يتلق عن المصريين ما سبقوا إليه في الدين والحكمة والقانون.
وإذا كان العبرانيون قد كتبوا تاريخهم علي هذا النحو إنصافا لأنفسهم وكراهية في المصريين, فقد أخذنا عنهم ما كتبوه عنا دون أن نراجعه علي ما ورثناه من آثار ماضينا وشواهد تاريخنا لنميز فيه بين الحقائق والأساطير.
صحيح أن مدرسي التاريخ يلقنون أطفالنا بعض المعلومات عن مينا ورمسيس, والأهرام والكرنك, وأن بعض المشتغلين بالثقافة والسياسة والسياحة يذكرون الفراعنة في عبارات سريعة عابرة, لكن ملايين المصريين يتلقون معلوماتهم في التاريخ من خطباء المساجد والكنائس الذين تلقوا بدورهم معلوماتهم في التاريخ من العبرانيين الذين أصبحوا مصدرنا الأول أو مصدرنا الموثوق به في معرفتنا لتاريخنا, وهي معرفة نكره بها أنفسنا, ونتبرأ من تاريخنا, وننسبه لأمة لا تربطنا بها صلة, وننسب أنفسنا لغير آبائنا الحقيقيين.
فإذا كانت هذه هي علاقتنا بماضينا, فكيف نعرفه ونستفيد منه ونستخلص الدروس؟ ولأي تراث نرجع, وفي أي ضوء نفهم ما صنعناه في ثورة يناير وثورة يونيو لنعرف أين نحن الآن, وأين سنكون غدا؟
وأنا أنظر في تاريخنا, فلا أري فيه علي امتداده وغناه شيئا يذكر بما صنعناه في الأعوام الثلاثة الماضية.
المصريون في العصور الماضية لم يستسلموا للطغيان, كما يزعم أصحاب النظرة السطحية المغرضة, وإلا فكيف أنشأوا هذه الحضارة إنشاء؟ وكيف أبدعوا هذا الإبداع غير المسبوق؟ وهل يبدع المستعبدون المذلون المهانون؟ وهل يصلون في الأدب والفن والدين والعلم والسياسة والإدارة إلي ما لم يصل إليه قبلهم شعب من شعوب الأرض؟ هل هذه صورة بلد يرزح طوال تاريخه تحت الطغيان؟ وهل يمكن لهذه الحضارة التي ظلت تنمو وتتطور وتزدهر أربعة آلاف سنة أن تسير علي هذا النحو, وأن تحقق ما حققته في ظل حكام لم يكونوا إلا طغاة مستبدين؟!
لا أرد بالعكس, ولا أقول إن النظم الفرعونية كانت نظما ديمقراطية, لكني أقول إن الفراعنة لم يكونوا يغتصبون السلطة أو يحكمون بأهوائهم أو يستعبدون رعاياهم, وقد حفظت لنا الوثائق المصرية المكتوبة صورا من القوانين التي احتكم لها أجدادنا القدماء, ومن العقود التي أبرموها فيما بينهم, ومن القضايا التي نظرتها محاكمهم, والأحكام التي أصدرها قضاتهم, بالإضافة إلي لما نعرفه عن العقائد الدينية والقيم الأخلاقية التي آمن بها المصريون وتمثلوها وعرفوا بها العدل والحق والخير والجمال والصواب, وهي تشهد كلها بأن أجدادنا القدماء عاشوا في ظل نظم تعرف لهذه القيم حقها.
والذي نجده في شهادة المصريين علي أنفسهم نجده في شهادة ـ الأجانب عليهم.
التوراة التي تتحدث في بعض أسفارها عن طغيان الفراعنة, تتغني في أسفار أخري بمصر, وتشبهها بالجنة, كما نري في سفر التكوين في الفقرة التي تقول عن أرض الأردن إنها كجنة الرب كأرض مصر أما إلياذة هو ميروس, فتتحدث عن عظمة مصر فتقول عن طيبة ـ الأقصر: أيه لك يا طيبة! يا كنز مصر الذي لا ينضب معينه, يا من تتيهين بأبوابك المائة التي ينطلق من كل منها مائتا فارس, وقد استووا في عرباتهم ذات الجياد المطهمة!.
هل تكون هذه صورة بلد مستعبد, وهل تبني هذه الحضارة أمة ترزح تحت الطغيان؟!
لكن هذه الأمة ـ أمتنا المصرية ـ تعرضت لما هو أقسي من الطغيان المنسوب ظلما وعدوانا لأسلافنا الفراعنة, تعرضت للغزو الأجنبي الذي لم تنقطع موجاته, ولم تتوقف منذ غزاها الهكسوس في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد حتي احتلها الإنجليز في ثمانينيات القرن التاسع عشر, ولم يرحلوا إلا في خمسينيات القرن العشرين, ثلاثة آلاف وخمسمائة عام واجهت فيها مصر هؤلاء الغزاة, الهكسوس, والليبيين, والاشوريين, والفرس, واليونان, والرومان, والعرب, والأتراك حتي نصل إلي الفرنسيين والإنجليز.
لماذا كانت مصر هدفا للغزاة الأجانب؟ وكيف بقيت تحت احتلالهم خمسة وعشرين قرنا متواصلة فقدت فيها دولتها المستقلة, وفقد فيها المصريون حقوقهم كلها, حقهم في تولي السلطة, وفي حمل السلاح, وفي ملكية الأرض, وفي الحرية؟ مصر كانت هدفا للغزاة لأنها صرة العالم تتجه لها كل الأنظار من الشرق والغرب والشمال والجنوب, ولأن مصر كانت ترفل في النعيم المقيم والشعوب من حولها جائعة عريانة, ولأن مصر كانت متحضرة مثقفة متدينة تعمل وتنتج, وترسم وتنحت, وتتعبد وتتهجد, وترقص وتغني, والشعوب من حولها متوحشة متبربرة لا تعبأ بالموت لأنها لا تعبأ بالحياة, فكيف واجه المصريون هؤلاء الغزاة؟ وكيف صبروا علي وجودهم خمسة وعشرين قرنا؟ وما هي علاقة هذا التاريخ بما صنعناه في الأعوام الثلاثة الماضية؟