تستحق تحفة بيتر ماير، التي نُشرت بعد موته، أن تكون أساس سياسة المناهضين للوحدة الأوروبية، لا في بريطانيا فحسب، بل في كل دول القارة. فيجب ألا يقتصر النضال لاستعادة الديمقراطية البرلمانية على الأحزاب السياسية اليمينية (وأحياناً الفاشية).

Peter Oborne

نصادف من حين إلى آخر كتاباً أو قصيدةً أو عملاً فنيّاً مميزاً، متقن الصنع، دقيقاً، وحقيقيّاً، حتى إننا لا نكفّ عن التفكير فيه، فترغب في قراءته أو تأمله مرات عدة كي تضعه في إطاره الصحيح وتفهم ما يعنيه.
خلال عملي كمراسل سياسي طوال عقدين من الزمن مررتُ بتجربة قوية من هذا النوع حين لفت أحد أصدقائي انتباهي إلى مقال من عشرين صفحة في مجلة أكاديمية مغمورة.
حمل هذا المقال، الذي كتبه العالِمان السياسيان ريتشارد كاتز وبيتر ماير، العنوان quot;بروز حزب الكارتلquot;، وأوضح بطريقة مباشرة كل ما حيّرني كمراسل صحافي بارز: أوجه الشبه السلبية بين أحزاب يُفترض أنها متنافسة، الفساد والارتشاء اللذان باتا متفشيين في السياسات العصرية، وبروز نخبة سياسية تحتقر الناخبين العاديين وتعاملهم بعدائية. ويشكّل كتابي The Triumph of the Political Class (انتصار الطبقة السياسية) في بعض أوجهه محاولةً لنشر مقال كاتز وماير ذاك.


قبل بضعة أسابيع، صُعقت وحزنت حين علمت أن بيتر ماير (الذي لم ألتقِه يوماً) مات فجأة عن عمر يناهز الستين، عندما كان في عطلة مع عائلته في مسقط رأسه في أيرلندا، لكن صديقه فرانسيس مولرن نجح بمهارة في طباعة الكتاب الذي كان ماير يعمل عليه قبيل موته. يحمل هذا الكتاب العنوان Ruling the Void: The Hollowing of Western Democracy (حكم الفراغ: إفراغ الديمقراطية الغربية)، وقد نشرته دار quot;فيرسوquot;، وأعتقد أن هذا الكتاب مميز ومبدع بقدر ذلك المقال.
يمتاز المقطع الأول فيه بجرأته وقوته، ويعرض الفكرة الأساسية بإتقان: quot;ولّى عصر ديمقراطية الأحزاب. صحيح أن الأحزاب ما زالت قائمة، بيد أنها صارت منفصلة عن المجتمع الأوسع، وتسعى وراء نوع من التنافس يفتقر إلى المعنى، حتى إنها ما عادت تبدو قادرة على دعم الديمقراطية بشكلها الحاليquot;.
يركز الجزء الأول من كتاب ماير الجديد على هذه الأزمة في ديمقراطية الأحزاب، فيرصد التراجع الحاد في إقبال الناخبين على صناديق الاقتراع، وانهيار العضوية الحزبية (انخفض عدد أعضاء حزب المحافظين البريطاني من ثلاثة ملايين في خمسينيات القرن الماضي إلى نحو 100 ألف اليوم، ما يشكّل تراجعاً بنسبة 97%)، وانحسار المشاركة المدنية. كذلك يُظهر ماير أن هذا ميل أوروبي، ففي كل أرجاء القارة، انقلبت الأحزاب ضد أعضائها، وما عاد القادة السياسيون يمثلون الناس العاديين، بل تحوّلوا إلى مبعوثين للحكومة المركزية.
لا شك أن كل هذا يُعتبر بالغ الأهمية وأساسيّاً في المناظرة العصرية الملحة عن خيبة أمل الناخبين، لكنني أريد أن أركز على النصف الثاني من كتاب ماير لأن هذا البروفيسور يتناول فيه الدور الذي يؤديه الاتحاد الأوروبي في تقويض الديمقراطية الوطنية وتخطّيها.
يبدأ ماير بعرض معضلة تاريخية: شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990 نظريّاً اللحظة الأهم بالنسبة إلى الديمقراطية الغربية، إلا أنه وسم أيضاً بداية تداعيها، ويوضح ماير أن النخب السياسية حوّلت أوروبا إلى quot;عالَم محمّي بعيد عن مطالب الناخبين وممثليهمquot;.
حرم مجلس الإدارة السياسي الأوروبي هذا البرلمانات الوطنية من عملية اتخاذ القرارات، ففي كل المسائل المهمة، من الاقتصاد إلى الهجرة، صارت القرارات تُتخذ في مكان آخر، ويضيف البروفيسور ماير أن سياسيين كثراً شجّعوا هذا الميل لأنهم لم يشاؤوا quot;تحمّل مسؤولية اتخاذ قرارات سياسية قد تكون غير شعبية، متفادين بالتالي احتمال التعرض لاستياء الناخبينquot;. نتيجة لذلك، بات بيروقراطيون مجهولون لا يمكن محاسبتهم، لا سياسيون مسؤولون أمام ناخبيهم، يتخذون القرارات التي تؤثر بعمق في حياة هؤلاء الناخبين.
صحيح أننا نتفهم هذه الدافع، إلا أن التأثيرات جاءت بالغة السوء لأنها جعلت السياسيين يبدون غير أكفاء أو جبناء، وحوّلت السياسة بحد ذاتها إلى مصدر ازدراء، ففي بريطانيا مثلاً، لا يستطيع ديفيد كاميرون اتخاذ أي خطوات للحدة من الهجرة البلغارية والرومانية؛ كذلك بات رؤساء وزراء اليونان، والبرتغال، وإسبانيا مجرد مديري فروع للبنك المركزي الأوروبي وغولدمان ساكس. ونتيجة هذه المعضلة البغيضة، تشوّه الاتحاد الأوروبي، الذي أُسس ليكون وسيلة لتفادي العودة إلى الفاشية في حقبة ما بعد الحرب، وتحوّل منذ ذلك الحين إلى وسيلة لعرقلة الديمقراطية بحد ذاتها.
في مقارنة مؤسفة، يعود ماير إلى ألكسي دو توكفيل، مفكر فرنسي من القرن التاسع عشر يُعتبر من أعظم واضعي النظريات الحديثة حول الديمقراطية، إذ أشار توكفيل إلى أن الأرستقراطية الفرنسية قبل الثورة تعرضت للازدراء لأنها طالبت بامتيازات تستند إلى وظائف ما عاد بإمكانها القيام بها، ويوضح ماير أن الطبقة السياسية الأوروبية في القرن الحادي والعشرين تتبنى اليوم موقفاً مماثلاً.
خلاصة القول، اقتربت النخب الأوروبية كثيراً من القضاء على ما تربت على اعتباره سياسة، فقد استبدلت هذه السياسة بحكم البيروقراطيين، المصرفيين، وأنواع أخرى من الخبراء غير المنتخبين، وقد أفلتت من المحاسبة حتى اليوم، لكن انتخابات البرلمان الأوروبي، التي ستُعقد في شهر مايو المقبل، ستشكّل امتحاناً بالغ الأهمية يُظهر ما إذا كانت ستتمكن من المضي قدماً في ذلك.
يدّعي الاتحاد الأوروبي أن هذه الانتخابات لا تقلقه، فقد أظهر تقرير صدر الشهر الماضي عن عضوين في معهد جاك ديلور أن quot;التزايد العددي للقوى الشعبوية لن يكون له تأثير كبير في عمل [البرلمان الأوروبي]، الذي سيبقى قائماً إلى حد كبير على التسويات التي عُقدت بين المجموعات السياسية المسيطرة. ويعكس هذا موقف الأغلبية العظمى من مواطني الاتحاد الأوروبيquot;.
يا للعجب! تشير استطلاعات الرأي في فرنسا إلى أن الجبهة الوطنية المعادية للسامية، التي تعتبر المهاجرين غير الشرعيين quot;عصابات إجرامية منظمةquot;، ستحصد عدداً أكبر من الأصوات، مقارنة بالأحزاب الكبيرة، وقد وحّدت الجبهة الوطنية قواها مع خيرت فيلدرز المناهض الشرس للإسلام في هولندا، الذي وعد باسترجاع quot;تحكمنا في حدودنا، عملتنا، اقتصادنا، ومالناquot;. أما في بريطانيا، فمن المرجح أن يحقق حزب استقلال المملكة المتحدة النصر في مايو. كذلك تزداد الأحزاب المناهضة للوحدة الأوروبية نفوذاً في الدنمارك، والنمسا، واليونان، وبولندا.


تُعتبر هذه الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي يمينية وأحياناً يمينية متطرفة؛ ولأسباب يصعب فهمها، يواصل اليسار دعمه الاتحاد الأوروبي بحماسة، مع أنه يتبنى سياسات تقلل من مستوى المعيشة والوظائف وتقوّض الأعمال والاقتصاد بأكمله (كما رأينا في اليونان وإسبانيا). وفي بريطانيا، يُعتبر إد ميليباند من أبرز المؤيدين للمشروع الأوروبي، ويرفض رفضاً قاطعاً فكرة إجراء استفتاء.
على غرار ميليباند، كان بيتر ماير ينتمي إلى اليسار، كان رجلاً أيرلنديّاً أمضى الجزء الأكبر من حياته المهنية في العمل في جامعات أوروبية في إيطاليا، وهولندا، وأيرلندا. رغم ذلك، وضع العمل المناهض للاتحاد الأوروبي الأقوى والأكثر إتقاناً وإقناعاً بين كل ما طالعتُ، ويبرهن عمله هذا أننا من المستحيل أن نكون ديمقراطيين وأن ندعم في الوقت عينه استمرار الاتحاد الأوروبي.
تستحق تحفته هذه، التي نُشرت بعد موته، أن تكون أساس سياسة المناهضين للوحدة الأوروبية، لا في بريطانيا فحسب، بل في كل دول القارة. هذا بالغ الأهمية، فيجب ألا يقتصر النضال لاستعادة الديمقراطية البرلمانية على الأحزاب السياسية اليمينية (وأحياناً الفاشية). يستطيع اليمين واليسار أن يختلفا (بطريقة حضارية) حول مسائل مهمة عدة، ولكن لا شك أن جانبَي هذا الانقسام العقائدي يقران بأن الديمقراطية ما زالت تستحق النضال في سبيلها، وأن العدو المشترك قد أضحى الاتحاد الأوروبي.