يوسف مكي


ليس سراً، ما يعانيه العراق، من جرائم سياسية مركبة، ليست التفجيرات في المدن الرئيسية، في قلب الأسواق والأماكن العامة المكتظة بالسكان سوى واحد من مظاهرها . ولا يمكن عزل ما يجري الآن من أحداث جسام في هذا البلد العريق، من دون ربطها بالاحتلال وبالتسويات السياسية التي أعقبته . وطبيعي القول إن عراقاً قوياً كان دائماً وباستمرار بالضد من مصالح القوى الإقليمية والدولية .
الاحتلال الأمريكي، للعراق عام ،2003 لم يستهدف النظام فحسب، كما هي عادة الاحتلالات الاستعمارية التقليدية، ولكنه تبنى استراتيجية، هدفت إلى هدم الدولة العراقية، وتخريب مؤسساتها . وكان حل الجيش العراقي، الذي ارتبط بالدولة الوطنية الحديثة، التي تأسست عام ،1920 هو أول خطوة في اتجاه تدمير العراق، ومصادرته كياناً وهوية، وتغيير المعادلة الديمغرافية (السكانية) فيه .
القوى العراقية التي ساندت الاحتلال، انقسمت إلى شطرين . شطر موالٍ بالتمام لإيران، وعماده المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وحزب الدعوة، وهو حزب أسس في عهد شاه إيران، والهدف من تأسيسه هو تحقيق اختراق سياسي، موالٍ للشاه في الخليج العربي . وحين أطيح بنظام الشاه، أدار الحزب له ظهر المجن، وانتقل في موالاته للنظام الجديد .
المعارضة الأخرى، للنظام نشأت في الغرب، ورموزها كثر، لعل أهمهم إياد علاوي، وأحمد الجلبي، وتضامنت معهما قيادة الإخوان المسلمين، بقيادة طارق الهاشمي الذي تولى منصب نائب رئيس الجمهورية، قبل أن يحتدم الصراع بينه وبين الخط الإيراني، الذي يقوده رئيس الحكومة حالياً نوري المالكي .
أفصحت المؤشرات التي ارتبطت بخريطة حظر الطيران في الشمال والجنوب، أثناء الحصار الذي فرض على العراق، إلى نية إدارة الرئيس بوش، بل كلينتون تقسيم العراق، إلى ثلاثة أقسام . وكان نائب الرئيس الأمريكي حاليا، جوزيف بايدن قد تقدم للكونغرس الأمريكي، بمشروع تقسيم العراق، ووافق الكونغرس على المشروع بأغلبية الأصوات، لكن القرار اعتبر غير ملزم للإدارة الأمريكية .
في ظل الاحتلال، أصبح انشطار الجزء الشمالي من العراق، المعروف بمنطقة كردستان، أمراً واقعاً، وغدا الإعلان عن انسلاخه الكلي عن المركز، مسألة وقت، ورهناً بتوافقات إقليمية ودولية ليس إلا . ولم يتبق سوى قيام الإقليم الجنوبي، الذي تأجل تنفيذه لأسباب موضوعية، أهمها أن النظام في المركز متحالف مع طهران .
انسحب الجيش الأمريكي من العراق، تحت وطأة ضربات المقاومة العراقية، وأيضاً بفعل الأزمة الاقتصادية القاسية في أمريكا، التي برزت بعد ما عرف بأزمة الرهن العقاري . وقد ضمن الأمريكيون مصالحهم في العراق، من خلال توقيع جملة من الاتفاقيات النفطية والأمنية .
والمؤكد أن عراقاً مفتتاً سيبقى باستمرار هدفاً أثيراً لإيران، سواء كان في السلطة مؤيدون لها أم معارضون . لم يكن فصل الجنوب، وإقامة دولة شيعية فيه ممكناً، طالما ظل حلفاء إيران مهيمنين على السلطة بالمركز، وكان البديل هو تشكيل الإقليم السني، الذي يضم الأنبار ومحافظة صلاح الدين: تكريت وسامراء وبعقوبة . ويضاف إليهم الموصل والجزء الشرقي الجنوبي من بغداد . لكن ذلك، في نتيجته سيقطع الطريق الاستراتيجي البري الموصل إلى سوريا ولبنان، فالبحر الأبيض المتوسط .
الانتفاضة الحالية في الأنبار، مركبة ومعقدة، لكن القراءات الجزئية تتكامل مع بعضها في النهاية، لتؤكد رفض العراقيين: للفساد ولهيمنة عملاء طهران وبقايا نفوذ الاحتلال على الحكم، ويأتي ذلك متزامناً مع الرغبة في إنهاء إفرازات الاحتلال . وهنا تتداخل المصالح وتتقاطع الإرادات .
يمكن القول إن الوضع السياسي في العراق، قد تبدل جوهرياً بعد الاحتلال، وأصبح تكاثر وجود الأحزاب، أشبه بمزرعة الأرانب . بعضها تأسس في المنفى وبعضها الآخر، تشكل بعد سقوط بغداد . والقليل منها كان قائماً وموجوداً فعلياً على الأرض كالأحزاب الكردية .
الأحزاب المرخص لها، لا تعكس بالضرورة وجوداً حقيقياً على الأرض . فحزب البعث، الذي قاد السلطة الوطنية حتى عشية الاحتلال عام ،2002 لا يزال يعتبر القوة الأكثر تنظيماً وربما عدداً في العراق . ومن دون مشاركته في السلطة، فإن من غير المتصور قيام عراق مستقر . ويتعاطف مع الحزب عدد من المناهضين للاحتلال، كأتباع الطريقة النقشبندية .
وأوضاع العراق أشبه برمال متحركة، تحالفات تنشأ وأخرى تختفي . والخصومة التاريخية، بين طرفي المعارضة السابقة: معارضة إيران ومعارضة الغرب، أخذت تتسع . وقد وجد إياد علاوي وكثير من المعارضين للسياسات الإيرانية في العراق، فرصة في انتفاضة الأنبار الشعبية، لكي يستثمروها، ويلتحقوا بها .
ما يجري الآن في الأنبار هو صراع إرادات، ومعركة كسر عظم، بين تنظيمات المعارضة السابقة . واعتقال النائب العلواني في محافظة الأنبار هو أحد تجليات هذا الصراع . والخشية هي اتجاه الأوضاع لقيام إقليم مستقل، فيما يعرف بالمثلث السني . وهو ما عبر عنه عدد من نواب المحافظة في البرلمان العراقي .
مطلب التقسيم، سيكون عبئاً آخر، على الأعباء التي تنوء بحملها أرض السواد . فهو سيكون استكمالاً لمطلب تفتيت العراق، إلى ثلاثة كيانات كرتونية . والإقليم إن حدث التقسيم، لا سمح الله، لا يملك مقومات الدولة الحديثة، بكل المقاييس . فهو بلد فقير يمثل معظم الصحراء العراقية، وتنقصه الثروة . وهو أقل المحافظات العراقية، من حيث الكثافة السكانية، وأكثرها اتساعاً في المساحة . وسيكون محاطاً، بما يشبه الكماشة من كل الجهات، بأنظمة معادية له . وسيكون عقبة كأداء، الآن وفي المستقبل في الحد من العمق الاستراتيجي للعراق وسوريا، على السواء .
وحدة العراق هي الأساس، ومواجهة التدخلات الإقليمية، شرطها وقوف كل العراقيين خلف برنامج وطني، يقضي على الإرهاب ويحقق الأمن والسلام، ويوقف عمليات التخريب والتفجير، ويضمن المساواة والتكافؤ، ويحارب الفساد والمحسوبية، ويؤمن لشعبه الأمن والتقدم والرخاء . ويعيد للعراق حضوره العربي، الحضور الذي رافق مسيرته منذ فجر التاريخ .