سالم سالمين النعيمي

العراق الدولة التي استولى عليها غياب الأمن والأمان وانتشار العنف السياسي والجريمة المتفشية والبطالة وأزمة سكن خانقة وبنية تحتية متهالكة للخدمات الرئيسية والخوف وعدم القدرة على التنبؤ، وفساد منظم غير مسبوق ومستوى معيشة متدنٍ جداً، تواجه مستقبلاً مريراً، فهل هي لعنة صدام حسين أم تركة الأميركان أم الاثنين معاً، أم لم يجف دم سيدنا الحسين؟ حتى أصبح العراقيون لا يعرفون ولا يعترفون بالتسوية السلمية وتقديم تنازلات من أجل عيون الوطن، وقصور مخجل في مفهوم وممارسات الديمقراطية، أما حقوق الأقليات فقد ذهبت مع مهب الريح الطائفية.

فحالة عدم اليقين والارتباك المتعلقة بالبيئة الاستثمارية السياسية والمذهبية والقومية والاقتصادية في العراق ليست سوقاً لضعاف القلوب، وقد سجلت 9475 حالة وفاة بين المدنيين في العراق عام 2013، مقارنة مع 10130 عام 2008، وأزمة لاجئين مع أكثر من أربعة ملايين من 26 مليون نسمة هم من النازحين منذ عام 2003، وهو ما يمثل نحو 20 في المائة من سكان العراق، وعدد 1,6 مليون شخص إضافي ضمن أعداد المشردين داخلياً. وعراق عام 2014 يترنح في مناخ من الأزمة، ويسير نحو مستقبل معطياته تشير فقط إلى المزيد من الفوضى، والمزيد من العنف.

وإنْ كانت الدولة الإسلامية (تنظيم القاعدة وحلفاؤه) في العراق هي المسؤولة عن معظم التفجيرات، خاصة في الأحياء الشيعية في جميع أنحاء العراق، نتساءل كيف تفشل قوة أمنية قوية قوامها مليون فرد في حماية المدنيين؟ فهو مؤشر خطير آخر نحو اتجاه تسير نحوه الأمور في العراق، فخلال ذروة العنف الطائفي، أصبح العديد من المناطق السُنية مناطق محظورة للشيعة، والعكس صحيح، ويتحسن الوضع في أوقات متفرقة، والكثير من الأحياء تختلط مرة أخرى، ولكن الناس قلقون حول ما يخبئه المستقبل لبلادهم التي افتقرت إلى الاستقرار لفترة طويلة، وإنْ كان رجل الشارع العراقي البسيط يحلم أن تحل الهوية العراقية محل الهوية الطائفية، ولكن الكثير من الساسة والقيادات المذهبية والعشائرية لها وجهات نظر مختلفة في ظل الدعم الخارجي من جهات إقليمية ودولية وجماعات وتنظيمات.

وإذا نظرنا إلى الملامح الرئيسية للنظام السياسي في العراق، نجد خلف دولة الديمقراطية المزعومة حكومات الأقليات المتفرقة التي يأخذ بعضها الصفة الرسمية والأخرى الصفة العرفية الشعبية المتمثلة في حكومات رؤساء العشائر التي يريد كل منها الظفر باستقلاليته وتمديد نفوذه على المناطق التي يشكل فيها الأغلبية، فمن حكومة إقليم كردستان: المناطق الكردية في شمال العراق التي تتمتع بدرجة عالية من الحكم الذاتي، مع حكومة وبرلمان وقوات أمن تسيطر على الأراضي الخاضعة للسيطرة الكردية الغنية بالنفط، حيث يعد تقسيم الأرباح من صادرات النفط هو حجر عثرة في العلاقات بينها والحكومة المركزية في بغداد، وصولاً إلى الحكومة الائتلافية غير المتناسقة، أو المتفقة على المبادئ الرئيسية، ولا تعبر عن واقع الشارع العراقي الذي يرى أن أعضاء تلك الحكومة يتنافسون لأخذ حصة من الكعكة، بدلاً من التنافس لخدمة شعبهم، بجانب قوى الظل التي ترى في الحكومة مجرد دمية يحركها الغرب للظفر بمصالحه الخاصة، وهي لا تصلح لقيادة العراق، خاصة أنها مكبلة بقلة الدعم والقبول الشعبي، وعدم ثقة نسبة كبيرة من الشعب، خاصة جيل الشباب، ما أدى إلى الكثير من الصراعات الداخلية، وعدم الاستقرار السياسي.

ففي السلطات المحلية في العراق (18 محافظة)، تنتشر الدعوات الفيدرالية فيها، وهي شائعة بصورة أكبر في المناطق الشيعية الغنية بالنفط في الجنوب التي تريد عائدات أكبر من الموارد المحلية، والمحافظات السُنية في الشمال الغربي، وسكانها الذين لا يثقون في الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد، واعتقادهم بأنهم ماضون في مشروع الدولة المذهبية الوطنية، ودور إيران المتأرجح بين كونه ظاهراً وخفياً في التأثير على أجندات وتوجهات تلك الحكومة.

ويعتقد العديد من السُنة والشيعة معاً أن رئيس الوزراء نوري المالكي، وهو الزعيم الشيعي الذي أصبح أول رئيس وزراء في عراق ما بعد نكسة 2003 الذي يطلق عليه البعض laquo;صدام الشيعةraquo;، يمارس كل أنواع التضليل السياسي من خلال احتكار السلطة وتثبيت الموالين له في قوات الأمن، ويخشى بعض المراقبين أن هذا النمط من الحكم قد يستمر مع خلفائه ويصبح نمط الحكم السائد في العراق.

ويستند الصراع المعاصر بين الشيعة والسُنة في العراق ليس فقط إلى الانشقاق الذي حدث منذ ما يقرب من 14 قرناً، ولكن هيمنة العرب السُنة، على النظام السياسي في عهد صدام، وبالمقابل حرمان الشيعة من الحقوق السياسية وتقليص حرياتهم الدينية، وبعد أن وصلوا للسلطة، برز البعد الإقليمي، حيث تسيطر الأحزاب الدينية الشيعية الرئيسية على الانتخابات في العراق، ولديها علاقات وثيقة مع إيران، في حين أن الأكراد (15 إلى 20 في المئة من الشعب)، يشعرون بأنهم دولة داخل دولة، دون أن ننسى الدور الذي قد تلعبه الأقلية التركمانية في الصراع السياسي مستقبلاً على الرغم من أنها تمثل أقل من 5 في المائة من السكان، وتحظي بالدعم التركي الذي يعارض بشدة كياناً كردياً مستقلاً.

ويرى البعض أن أكبر التحديات التي تواجه العراق، هو غياب اللبنات الأساسية لثقافة ممارسة حياة سياسية ديمقراطية حديثة، واختصار منظومة الديمقراطية في وجود المؤسسات والتشريعات، وإهمال أن الديمقراطية عادة ما تنمو وتزدهر وتمارس بفعالية نسبية في ظروف اقتصادية ملائمة (مثل: ارتفاع مستويات المعيشة، ووجود طبقة وسطى مزدهرة)، وفي ظل توافر القيم المدنية والسياسية الداعمة للممارسات الديمقراطية، (مثل الوحدة الوطنية والثقة والثقافة والوعي السياسي الوحدوي، ووجود مجتمع مدني فاعل، ووجود آليات وتشريعات تكفل تحقيق المواطنة والمساواة والمشاركة السياسية، والتسامح مع الأقليات والديانات والمذاهب، والمساواة بين الجنسين وبين الأعراق، وارتفاع نسبة التعليم النوعي، تأصل ثقافة الديمقراطية في عقول الشعب واقتناعهم بممارساتها..الخ )

وفي المقابل، فإن معطيات المجتمع المدني السائدة في المجتمع العراقي أقل كثيراً عما هو موجود في كل الديمقراطيات الراسخة، فعلى سبيل المثال، أعداد كبيرة من العراقيين لديهم اشتراك وعضوية دائمة في الثقافة القبلية التقليدية، التي تتجلى في الطاعة العمياء لشيوخ العشائر والولاء المطلق للقبيلة والإقليم، بجانب تقديس المرجعيات المذهبية، وهي ظاهرة عابرة للحدود والجنسيات، وانتشار ثقافة العنف والانتقام.

العراق لم يعد جوهرة التاج العربي الثقافي والتعايش السلمي بين الأقليات بعد أن طحنته الصراعات السياسية، وأهمل البناء الإنساني الحضاري فيه، بل يكاد أن يكون مرتعاً آمناً للعنف وجماعات الإرهاب، ولا معين ولا من يلتفت للطبقات المسحوقة ومعاناة الشعب اليومية حتى أصبح حلم العراقي بكل بساطة أن يمر عليه يومه هو وعائلته ولم يصابوا بالأذى، فأي ديمقراطية يريد الغرب أن تمارس في العراق؟ والثقافة السياسية العراقية عبارة عن laquo;سياسات الهويةraquo;، أي أن التضامن العرقي والديني هو الهوية ويعتلي فوق كل القيم الأخرى، بما في ذلك الحرية الفردية، وبالتالي، الحرية السياسية، فمن الطبيعي أن يكون مفهوماً غريباً على الكثير من العراقيين.

ومن المعوقات الأخرى لممارسة حياة ديمقراطية بالعراق، هو عبء الديون الساحقة التي تواجه الأجيال القادمة من العراقيين، فالتزامات العراق المالية والديون الخارجية تقف مجتمعة إلى 383 مليار دولار، أي 16000 دولار للفرد الواحد، في بلد الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد يبلغ فيه فقط 2500 دولار، فمن وضع العراق في هذا الموقف؟ وهل كانت الحرب على العراق بسبب ارتباط نظامه بـlaquo;القاعدةraquo; ووجود ترسانة لأسلحة الدمار الشامل؟ أم أن هناك أسباباً أهم؟ وذلك مثل الاستيلاء على النفط، وهل كان فعلاً بعض الساسة الذين كانوا ضمن فريق التخطيط أو الداعمين لغزو العراق هم من ملاك أو شركاء في شركات النفط التي حصلت على معظم العقود وكانوا أكبر أصدقاء لوبي ذلك القطاع؟

فلم تكن شركات النفط الغربية ترغب في امتلاك حقول النفط، ولكن عكس ذلك تماماً والتأكد من أنه سيكون هناك حد لكمية النفط التي من شأنها أن تأتي من العراق، فلم تكن الحرب كما يعتقد الكثير هي حرب الدم مقابل النفط، بل حرب للحفاظ على قلة العرض ورفع الأسعار عالياً، وها نحن نحتفل بمرور السنة الخامسة من النفط الخام عند 100 دولار للبرميل.

كما كان الغزو لوقف التهديد غير المعلن للهيمنة الاقتصادية الأميركية من اليورو كعملة بديلة للدولار في تعاملات صفقات النفط، والعراق فعلاً قام بهذا التحول في نوفمبر 2000 عندما كان laquo;اليوروraquo; يساوي نحو 80 سنتاً، وفي 2002 انخفض الدولار 15 في المئة مقابل اليورو، فكانت حرب الخليج لا مفر منها في عهد بوش الابن، والعراق هو ثالث أكبر مصدر للنفط في العالم، وما يدور فيه يؤثر على أسواق النفط العالمية وتداول العملات، كما أن البنية التحتية للنفط العراقي بحاجة ماسة للتحديث والتوسع، ناهيك عن أن النفط الخام تحت رمال العراق يحتاج لتكنولوجيا لا تملكها العراق، فهل فعلاً انتهى الاستعمار الأجنبي؟ وهل المتناحرون في العراق وبقية الدول العربية مدركون لتداعيات اللعبة الكبرى، وأن ليس لديهم الوقت الكافي لعد الدجاج قبل أن يفقس البيض؟ وما الجدوى من ذلك إنْ كان الذئب يقف على باب المزرعة يأكل البيض قبل أن يفقس كل يوم؟