رشيد الخيّون

ذَكرنا في مقالين سابقين، على صفحات laquo;الاتحادraquo;، كيف جهد الإسلام السياسي السني لإنقاذ laquo;نواب صفويraquo; (أُعدم 1955) من حبل المشنقة، بعد أن حُكم عليه بالإعدام إثر عمليات اغتيال قامت بها منظمته laquo;فدائيان إسلامraquo; ضد النظام الشَّاهنشاهي بإيران، وللتذكير بعنواني المقالين فهما: laquo;نواب صفوي... وخطة الإخوان لإنقاذهraquo; (13 نوفمبر 2013)، وlaquo;صفوي... يوم استضافه الإخوان ببغدادraquo; (6 نوفمبر 2013). شكّل laquo;الإخوان المسلمونraquo; حينها خلية عمل ببغداد، لتهريبه من السجن ووساطة الدولة العراقية والمرجعية الدينية بالنجف، لكن السيف سبقهم إليه. ومعلوم أن صفوي كان ناشطاً إسلامياً سياسياً شيعياً يعتمر العمامة السوداء، ومن الوارد لو بقي على قيد الحياة لما برز آية الله الخميني هذا البروز.


سنذكر في هذا المقال قضية معكوسة، وهي محاولة إسلاميين شِيعة لإنقاذ ناشط سُني معروف، وهو سيد قطب (أعدم 1966)، من حبل المشنقة، في زمن الرئيس جمال عبد الناصر (ت 1970). مثلما أن محاولة laquo;الإخوانraquo; لم يؤرخ لها في الأدبيات التي اطلعنا عليها، لولا ما كتبه الشيخ معن العجلي، وكان أحد نشطاء laquo;الإخوانraquo; آنذاك، في كتابه laquo;الفكر الصحيح في الكلام الصريحraquo;، وأفرد لها فصل laquo;محطم العرش البهلويraquo;.

لا يخفى أن تداخلا وفعلا مشتركاً كان جارياً بين الإسلاميين من المذهبين، فالعديد من نشطاء حزب laquo;الدَّعوة الإسلاميةraquo; -فيما بعد- انتظموا في laquo;حزب التحريرraquo; وlaquo;الإخوان المسلمينraquo;، والتَّنسيق كان جارياً على وجه الخصوص بالعراق أيام عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، بل وكان الإسلاميون الشيعة ينهلون ثقافتهم من كُتب سيد قُطب وأبي الأعلى المودودي (ت 1979)، ومَن يُقابل بين مراحل laquo;الإخوانraquo; في العمل الدعوي والسياسي، التي حددها حسن البنا (اغتيل 1949) في laquo;الداعي والداعيةraquo; مع المراحل التي تبناها laquo;حزب الدَّعوةraquo; سيجد النسخ مِن تجربة الإخوان واضحاً.

ليس هذا شاهد كلمتنا، إنما الشاهد محاولة إنقاذ سيد قطب من حبل المشنقة، وهذا لا يخص قادة laquo;حزب الدعوةraquo; الحاليين، وأقصد الذين وصلوا إلى السلطة إثر الاجتياح الأميركي، فأكثرهم إن لم يكن كافتهم انتموا بعد ذلك الحدث، ولم يوثق هذا الحزب شيئاً من تجربته، إنما ظلت خاطرات، ومنهم من كتب على السماع، وتوهم الحوادث، فحول تاريخ تأسيس الحزب إلى تاريخ وهمي، ومن يُراجع ما كتبه الأوائل كمهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وطالب الرفاعي، والشيخ محمد مهدي الأصفي، والشيخ عبد الهادي الفضلي (ت 2013)، سيجد أن الحزب تأسس بعد 1958 وتحديداً يوليو 1959، وهؤلاء يقولون بالحرف: إن الحزب تشكل ردة فعل لطغيان المد اليساري آنذاك. لهذا من المضحك أن يخرج أحدهم ويقول إن طالب الرفاعي بلغ الثالثة والثمانين فلم يعد يتذكر، مع أن الرجل لديه ذاكرة حديدية، لم ينس لا القديم ولا الجديد. طيب وماذا عن الآخرين؟!

يقول الرفاعي، وكان حينها نشطاً في قيادة laquo;حزب الدعوةraquo;، وهو أحد المؤسسين البارزين له: laquo;لما صدر الحكم بعقوبة الإعدام على القائد الإخواني المشهور سيد قطب بمصر في زمن جمال عبدالناصر، دخلَنا نحن ما دخلَنا في حزب الدعوة من الحزن والأسى، فقطب أحدُ أبرز القادة والمفكرين الإسلاميين. فأخذنا نُفكر ماذا نعمل في هذه القضية الخطيرة على العمل الإسلامي، وأن قُطب أُخذ وحُكم بالإعدام لأنه إسلامي لا لشيءٍ آخر، لم يكن تاجرَ مخدرات، ولا لأي قضية أُخرى، وعنوانه الإسلامي يهمّنا. فكّرنا بالسعي إلى محسن الحكيم، كمرجعٍ أعلى للشيعة، يتدخل لدى عبدالناصر لإلغاء حكم الإعدام. كنا نفكر في الأمر، أنا والسيد محمد باقر الصدر والسيد مهدي الحكيم والسيد مرتضى العسكريraquo; (أمالي السيد طالب الرفاعي).

نوشد محسن الحكيم (ت 1970) على أساس أنه أحد آباء الأمة الإسلامية، على الرغم من خلافاتها المذهبية، وأن الأنظار تتوجه إليه في محنها، وقُطب حُكم عليه بعقوبة الإعدام، لأنه مفكر إسلامي، وهو صاحب التفسير الكبير laquo;في ظلال القرآنraquo;، وكتبه متداولة في الشأن الإسلامي، فلابد أن يسجل موقفاً في هذا الشأن. ولما استفسر الحكيم ماذا يفعل قيل له: لو يبعث برقيةً إلى عبدالنَّاصر يتشفع بها برفع حكم الإعدام. وبالفعل أمر الحكيم بكتابة نص البرقية، وأسرع نجله محمد مهدي الحكيم وأتى بنص البرقية إلى والده لختمها، laquo;والختم عادةً محفوظٌ عنده لا يُسلّمه إلى كائن مَن كان، فأي نصّ خال من الختم لا قيمة له. فأُبرقت البرقية إلى عبدالناصر، لكنه لم يأخذ بها على ما يبدو، أو هناك من لم يُسلمها له، من موظفي إدارتهraquo; (المصدر نفسه).

بعد أسبوعين أو أكثر على إرسال البرقية وصل إلى النجف وفد من laquo;الإخوان المسلمينraquo; العراقيين، دخلوا إلى الصحن العلوي، وذهبوا إلى دار الحكيم طالبين التشفع بقُطب من حكومة عبدالناصر. laquo;كان مِن عادة السَّيد محسن أن يحتفظَ بالأُصول من البرقيات أو الرسائل المهمة تحت فراشه الذي يجلس عليه؛ ولما بدؤوا بالحديث تركهم حتى النهاية، وأفاضوا في مديح سيد قُطب، فأدلوا بكل ما عندهم. فالتفت إليهم قائلا: أنا أبرقتُ برقيةً إلى عبدالناصر منذ أُسبوعين، فأخرج لهم نصها، ورأوا التاريخ المسجل عليها، وقتها أخذهم الذهول بأنهم قادمون لطلب برقية، أو موقف بهذا الخصوص، وإذا هو صادر قبل أُسبوعينraquo;.

كان هذا في الحكم الثاني على قطب (1966)، ولا أحد يدري هل سُلمت البرقية إلى عبد الناصر أم لا! لكن في الحكم الأول (1964) توسط الرئيس عبد السَّلام عارف (قتل 1966)، ونجحت الوساطة، وقيل كانت له ميول إخوانية، وتلك قصة أخرى. شاهدنا أن وراء الطائفية شؤون سياسية، لكن بلا شك في ما يخص الإسلام السياسي قد تُؤجل وهو في المعارضة، وتحضر وهو في السلطة، والحال كان واضحاً في ما حصل ويحصل بالعراق وسوريا، تحالف وتخالف حسب الظروف، فتجد الشعور الطائفي جاهزاً للتحريك laquo;جنوباً أو شمالاraquo;.

هنا نسجل الشكر للشيخ العجلي وللسيد الرفاعي، في تسجيل المخفيات من تاريخ الإسلام السياسي، ومن لم يكظم غيظاً على الأخير، لأنه كشفها بكلام صريح، ولأنه صاحب دراية، فليتذكر أن الرجل كان معتمد المرجعية بمصر (1969-1985)، زمن أوسع مرجعين في التقليد الديني: محسن الحكيم وأبي القاسم الخوئي (ت 1992)!