أحمد الشرعبي


لا ننكر وجاهة الأسباب التي يثيرها جنرال مصر، لا سيما حرصه على حيادية الجيش ومهنيته ومحاذيره من الحملات الغربية لتصدره مهام السلطة السياسية، لكن لا هذه المبررات ولا غيرها من المزاعم ترقى لمستوى الواجب الوطني بالنزول عند إرادة الشعب

لكنها مصر.. آخر القلاع وأخيرها ومتى أسقطت فإن شيئاً، أي شيء وإن عزت مكانته لا يتعدى سلخ الشاة بعد ذبحها!
حين تجيء بشاراتها نفرح بصدق وحرارة، وإذا أصابها عارض مرضي فإن خمسمئة مليون عربي على الأقل يصابون بالهلع وتنتابهم قشعريرة خوف وفواجع إحساس بالضياع.
لهذا لا تستطيع مصر أن تكون شأنا ذاتيا يخص شعبها دون أبناء أمتهم، حتى وإن بدرت دواع اضطرارية ومرحلية للتسليم بتلك الخصوصية وجذع أنف الغواية التي يحاول بعض الأعراب - والأغراب - دسها على حساب سيادة الشعب المصري وحقه الكامل في اتخاذ التدابير والسياسات المناسبة لمصالحه بما هو وحده المسؤول عن تحديد وتوجيه خياراته دون منازع.
لكن.. كيف لنا أن نتعرف على مكمن الإرادة الوطنية لمصر، وما الذي يدعو الإنسان إلى الثقة بانسجام مواقفه مع مصلحة هذا البلد وإرادة شعبه؟
ولماذا يكون ما أقوم به كمواطن يمني عين الصواب، وما يفعله عربي آخر من قطر أو موريتانيا تدخلا غير ودي، إن لم يقل عنه عدائيا تتعين تعريته وصده.. ولماذا نكون على حق في مساندة جيش مصر ونعد السيسي بطلا قوميا وهو يلوح على ظهر دبابة ولا نرى في الإخوان المسلمين والرئيس المخلوع محمد مرسي غير الشر البواح وخنجر الجناية على الإسلام المفترى عليه رغم التصاقهما بمنابر الوعظ وانبلاج أيديهما المنسلة من كل جيب لإحلال نظام الصدقة في مجتمعاتنا؟
أهو عمى الألوان أم ازدواج المعايير أم أنها شريعة الإغواء تقذف زيغ الباطل للتشويش على قيم الحق والعدل والحرية؟
الإجابة عن هذه الحزمة الملتبسة من الأسئلة تستدعي التفصيل والتأصيل وتوضيح الفروق الفاصلة بين الموقف ونقيضه إذ يعتركان تجاه اعتمالات صراع بدأ سياسيا وانتهى إلى مواجهات عنيفة تهدد أمن واستقرار وسيادة الشعب المصري، ومن أبرز استخلاصاتها تدخل المؤسستين العسكرية والأمنية لحقن الدماء وطلبها نصب صندوق (استفتاء) في منتصف المسافة بين طرفي الصراع، وتحاشي انزلاقاتها إلى مستنقعاته جاء هذا السياق متوجا مضامين المثل الأعلى لهاتين المؤسستين في العزوف عن السلطة وقيام المجلس العسكري المشكل إثر ثورة 11 يناير بأداء واجباته الانتقالية، وتسليمه مقاليد الحكم لمرسي، لكن quot;الإخوانquot;، اختاروا الاستقواء بالخارج على المؤسسات الوطنية للدولة وركنوا على التطرف في مواجهة السواد الأعظم من ثوار 30 يناير 2013، وهم أكثر عددا مما كانت عليه الحشود السابقة، بل هم أيضا أحدثوا ارتباطا ووشيجة ثورية بمرسي، مما وسم علاقة الضدين بالرئيس الأسبق حسني مبارك؟
أرجئ الحديث في التفاصيل، لأن مصر تحملنا على ممارسة العدو السريع صوب مفاجآتها المتواترة وسباقاتها التاريخية التي لا تعرف التوقف ولا تسلم إرادتها الجسورة للدعة مهما تعاوت المخاطر وادلهم الخطب.
الأسبوع القادم سيخرج الشعب المصري للاستفتاء على العقد الاجتماعي، وهو قطعا سيحوز على أعلى نسبة تأييد من جماهير الشعب وتلك طبيعة الشعوب لا في التعبير عن توقها لنيل حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وضمان بناء علاقات عادلة بين شرائح المجتمع وسلطات الحكم المختلفة، ولكن لما تشكله اللحظات الصعبة في حياة الشعوب من محفزات لتحقيق الذات الوطنية والانتصار على محاولات الاستهداف.
بيد أن القضية ليست هنا وإنما في المرحلة التالية للاستفتاء على الدستور الجديد.
المصرييون واجهوا مخاطر جسيمة، وشهدوا فصولا من حقب الاستعمار وخاضوا حروبا عديدة من أجل السيادة، ونشبت في أوساطهم صراعات سياسية شتى، لكني لا أعتقد أن تهديدا عميقا ومحوريا شهدته بلاد الفراعين في تاريخها كما هو حالها المعاش.. وهي وإن أمكنها الانتصار في معركة العقل وفرغت من صوغ الدستور، وليس يخشى عليها في ميدان السياسة إلا أنها تقف حبيسة أنفاسها في انتظار الحارس المؤهل لقيادتها إلى بر الأمان.
عفوا، إن شط بنا الخيال، فلدى الشعب المصري مئات القادة المؤهلين الأكفاء، وهو يضم في أكنافه قامات باسقة أصلها ثابت وفرعها إلى عنان السماء.. بيد أن الظروف الاستثنائية تنتج شروطها الاستثنائية وتسوق الشعوب عنوة نحو وجهة محددة ولا مناص.
ولئن كانت ظروف مصر فرضت على الشعب اللجوء للمؤسسة العسكرية ليكون مفتاح التحدي أحد ألمع القيادات العسكرية المجربة، فإن ارتهان هذه الإرادة لموقف الفريق عبدالفتاح السيسي، الذي لم يحسم أمره بعد، سوف يلقى على الرجل أعباء مهولة تحوله من رمز وطني وقومي كبير إلى مسؤول مباشر عن خذلان شعبه، وهو والمؤسسة العسكرية سيتحملان نتائج إخماد روح مصر، وما يلحق بالجبهة الداخلية من ضعف وتهتك إن هما تقاعسا عن استشراف تلك الروح والمسارعة في تلبية ندائها؟
نحن إزاء تحول تاريخي قد تكون مصر مسرحا له، لكنه بانعكاساته المستقبلية سوف يمس الأمة العربية برمتها، وربما جاءت نتائجه السلبية على quot;الإخوانquot; قبل المسلمين.
فهل يمضي السيسي في عناده وتردده إلى النهاية أم يسعف شعبه بدفعة من الثقة المطلوبة لاجتياز المحنة؟
لا ننكر وجاهة الأسباب التي يثيرها جنرال مصر، لا سيما حرصه على حيادية الجيش ومهنيته ومحاذيره من الحملات الغربية والاستثمار الأميركي لتصدره مهام السلطة السياسية، لكن لا هذه المبررات ولا غيرها من المزاعم يرقى لمستوى الواجب الوطني بالنزول عند إرادة الشعب وما لا تستطيع الجماهير فرضه يمكنها التكليف به لمؤسساتها العسكرية وبنفس دوافعها الوطنية إزاء ثورة 30 يونيو، وإلا فإن موقف الجيش من تلك الثورة وتنصله عن ذات الإرادة في حراسة شباك المرمى سيحمل شيئا من التباسات (إن وأخواتها)، وبين الذات والموضوع يتعين وقف المراوحة قبل استحالتها معضلة على رصيد المخاض الشاق.