أمينة أبو شهاب

لا شك أننا فهمنا quot;الإخوانيةquot; خطأً حين اعتبارها انتظاماً حزبياً في تنظيم سياسي - ديني، quot;الإخوانيةquot; الحقيقية ليست هي التنظيم السياسي الذي انشغلنا به وبممارساته في السيطرة والتمكين، وإنما هي القبضة وتمكينها على العقل الجمعي وتسييجه وإلغائه بما يسمح في النهاية بشرط سيطرة الجماعة . ولذلك فهي (أو كانت) أكثر امتداداً وتعداداً من أعضائها الحقيقيين المسجلين، ولذلك أيضاً فهي سلطة تجهيل وإجهاض للوعي مارست دورها طويلاً في المجتمعات العربية .
quot;الإخوانيةquot; في هذا الجوهر الذي يفلت منا باستمرار هي ما يجدر إعادة اكتشافه في أهم الشخوص الدينية للجماعة وأكثرها تمثيلاً لها ولحقيقتها باعتباره سلطتها الافتائية التي تقف على أعلى المنصات وأكثرها تأثيراً ليس في مخاطبة أعضاء الجماعة أينما كانوا فحسب، بل التأثير كذلك في قطاع واسع من quot;العامةquot; عرباً ومسلمين .
هؤلاء العامة الذين يتوجه إليهم شيخ الجماعة وإمامها القرضاوي بفتاويه ليس مفترضاً بهم أن يكوّنوا رأيهم الشخصي في الشأن السياسي ويحددوا قراراتهم وخياراتهم في العملية السياسية، وبناء على حرية الإرادة واستخدام العقل والحكم على الأمور بتوافر المعلومات والحجج إلخ، ليس مفترضاً بالقطاعات الشعبية التي يخاطب الشيخ القرضاوي مراعاتها للحلال والحرام وخوفها من غضب الله، وبالذات تلك القطاعات في مصر . ليس مفترضاً أنها دخلت عصر انعتاق العقل وحرية الإرادة باعتبار أن العصر عصر ثورات، ولذلك ففتاواه quot;ملزمةquot; لها ويروجها إعلام الحرية والرأي والرأي الآخر العولمي الممتد والهائل الإمكانات . ألم تنشأ تلك المؤسسة الإعلامية وتمارس نفوذها الجاذب على العقل الجمعي العربي بالتوازي مع تصعيد الشيخ دينياً وإعلامياً وعولمياً وتدعيم سلطته، وكانت هي منصته وكان هو أداتها للدخول لقلوب المتدينين العاديين؟
لماذا يجب أن يكون الشيخ العولمي quot;الوسطيquot; إخوانياً؟ هو الذي كانت فتاواه بالغة الضرورة والأثر في فترات فاصلة وقاتلة في الحروب الأهلية العربية الأخيرة، وحين اقتضت كذلك المصلحة الغربية في ضرب أعدائها عسكرياً وحسم المعارك لصالحها كما في ليبيا؟
هل نصدق فعلاً أن هذا هو عصر quot;الحريةquot; للعرب وأن فعلهم السياسي تحدده وتقوده الحرية في ظل أن الشيخ هو إمام هذا العصر والإخوان هم وكلاء الحرية وثوارها وديمقراطيوها وذلك في محاولاتهم الشرسة لاستعادة الحكم بأي ثمن وإن كان بموت الآلاف وانهيار الدولة وجوع الشعب .
لقد شهد العقل الجمعي العربي أكبر حملة على الإطلاق لتزييف الوقائع والأحداث خلال الشهور السبعة الماضية منذ عزل مرسي .
وفي هذا التزييف الواسع النطاق للوعي يتم تصوير ثورة الشعب المصري على الجماعة وممثلها في الحكم على أنها انقلاب عسكري ضد رئيس متدين مثالي الأوصاف والأداء . الثورة الشعبية هي في المفهوم الإخواني انقلاب عسكري مما يمثل إقصاء تاماً للشعب من الفعل السياسي الحر الإرادة والأداء التاريخي الذي يتحول بالبلد من مرحلة إلى أخرى . ويمتد التزييف إلى المؤسسة العسكرية التي تصور على أنها مؤسسة معادية وquot;قوة احتلالquot; . لم يأت هذا التزييف الممنهج من فراغ، فالإخوان هم أصلاً مدرسة في الاستحكام بالعقل الجمعي وممارسة تزييف الوعي والتاريخ، وتصوير الآخر على أنه فريق الشر والباطل والزندقة والكفر .
إنهم وحدهم فريق الحق، وهذا هو مضمون كل فتاوى القرضاوي المتعلقة بالصراع السياسي في مصر التي تحصد الجماعة ميدانياً ما تنجح في زرعه في العقول كما يحدث مع جزء من تابعيها من الطلاب في الجامعات . فتوى القرضاوي الأخيرة حول تحريم الخروج للتصويت على الدستور هي quot;وثيقةquot; في العمل الإخواني في شل الفعل السياسي لقطاعات شعبية هم معنيون بها وبمحاولة تعطيل قرارها وإرادتها الحرة في المشاركة في العملية السياسية . إنه السلب للعقل الفردي والجمعي في حقيقة أن يكون هنالك quot;شيخquot; للتفكير سياسياً بالنيابة عن مواطني دولة مدنية حديثة يفترض فيهم امتلاك الإرادات والعقول والخيارات والقرارات السياسية . quot;الشيخquot; هو من يتخذ القرار بالمقاطعة ويوجه الجمهور لهذه المقاطعة بناء على الحلال والحرام الذي يتحول إلى عامل حسم في الصراع السياسي بما يثيره ذلك من بلبلة سياسية وتخويف وحصد مواقف سلبية أو أمل فيها من الإخوان لدى جماهير تضع الحلال والحرام في منزلة حياتية كبيرة .
وتقول الوثيقة، بطبيعة الحال، إن الدولة المصرية والقائمين عليها هي سلطة انقلاب غير شرعية وكل ما يصدر عنها هو باطل ويجب مناوأته ومقاطعته تمهيداً لتقصير عمرها وإطاحتها في النهاية . لا تقدم فتوى القرضاوي غطاء دينياً لتقسيم المجتمع وشعبه بين أتباع جماعة الحق وهي جماعة الإخوان وفئة الباطل وهي الدولة وأغلبية الشعب المصري، وإنما أيضاً تعطي المبرر الديني للحرب على الدولة من الجماعة والتي تخاض على مدار يومي في شوارع مصر وضد مؤسساتها .
هكذا هو القرضاوي وجه الجماعة وصوتها ولاعبها الأكبر في توجيه الرأي والاستحكام بالعقل الجمعي العربي بوسائل تزييف الوعي وأهمها، للأسف، الدين بتمثيل سلطته وكلمته .