محمد الأشهب

قبل عقدين وقف الزعيم النقابي المغربي نوبير الأموي أمام المحكمة في الرباط بتهمة التشهير والقذف ضد حكومة رئيس الوزراء عز الدين العراقي الذي حرك المتابعة القضائية، على خلفية تصريحات نسبت إلى الأموي تفيد بأن أعضاء الحكومة laquo;لن يجدوا بواخر تقلهم إلى خارج البلادraquo; عندما يغضب الشارع.

في تلك الفترة كان الاحتقان السياسي والاجتماعي يلقي بظلاله على محور العلاقة بين الحكومة والمعارضة التي اتسمت بقدر كبير من التوتر والتصعيد. وتحولت وقائع المحاكمة من جدل قانوني حول الاتهامات إلى مواجهات سياسية. كان رئيس الوزراء خرج من محنة طلب سحب الثقة داخل البرلمان، وكانت المركزيات النقابية تقود حركة احتجاج عارم في القطاعات كافة.

ما يلفت في سياق التطورات السياسية في البلاد، أن رئيس الوزراء الذي كان يقف في صف المشتكين، بات اليوم في شخص رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران يواجه تهماً بالقذف والسب من طرف حزب سياسي معارض، كان إلى وقت قريب أحد شركائه الأقوياء في الائتلاف الحكومي. لكن laquo;الاستقلالraquo; الذي اعتبر نفسه متضرراً من اتهامات رئيس الحكومة ذهب إلى القضاء يطلب الإنصاف. وإذا كان من شيء تغير، فهو أن المواقع استبدلت، ولم تعد السلطة التنفيذية وحدها تتابع خصومها السياسيين والنقابيين أمام القضاء. بل انبرى حزب سياسي عريق إلى الدخول على خط المواجهة ضد رئيس الحكومة في سابقة أولى من نوعها.

واقعة كهذه، بصرف النظر عن مدى قابليتها للذهاب بعيداً، أو حصرها في نقاط تسجيل مواقف سياسية وقانونية، يصبح فيها القضاء حكماً، تشي بأن أمورا كثيرة تغيرت في البلاد. وعندما تحدث بن كيران قبل فترة قصيرة عن تسريع وتيرة أحكام القضاء في النزاعات القائمة مع الإدارة التي تقع تحت نفوذه السياسي، لم يدر في ذهنه أنه سيأتي اليوم الذي يطالب حزب سياسي معارض بوقوفه أمام القضاء، فالتغيير الهائل الذي وقع، لناحية انتقال حزب laquo;العدالة والتنميةraquo; إلى رئاسة الحكومة، رافقه تغيير آخر في الممارسات والقناعات.

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كان رئيس الحكومة بن كيران وزعيم laquo;الاستقلالraquo; حميد شباط يمشيان سوياً في رقعة الائتلاف الحكومي الذي وضع laquo;الحرب على الفسادraquo; شعاراً للمرحلة. اختلف الرجلان في أسلوب إدارة الأزمات، وتبادلا الاتهامات إزاء ما يريانه هيمنة أو تقصيراً أو سوء تفاهم. وكانت اجتماعات الغالبية الحكومية سقفاً قابلاً لممارسة أنواع العتب المتبادل. غير أن انسحاب laquo;الاستقلالraquo; من التجربة الحكومية لم يكن ليمر من دون تداعيات، وليس تبادل الاتهامات الحالية التي وصلت إلى القضاء، بعيداً من أجواء الحذر وعدم الثقة التي طاولت المشهد السياسي برمته، فثمة خلافات يصار إلى احتوائها واستيعابها عبر الحوار، إن لم يكن رسمياً فمن خلال آليات وقنوات يظهر في نهايتها بعض الضوء.

كان صعباً على رئيس الحكومة أن يتقبل انتقادات شديدة من خصم كان يعاضده قبل وقت قريب، وبالقدر نفسه كان صعباً على laquo;الاستقلالraquo; أن يبتلع مرارات الاتهام بالتورط في تهريب أموال، من دون رد فعل، والواقع أن أصل المشكل يكمن في أسلوب إدارة الخلاف الذي ركز على التشخيص من كافة الأطراف المتصارعة، ما يعني افتقاد بوصلة الواقعية السياسية التي تجعل الاختلاف مطلوباً، لكن من دون الوصول إلى القطيعة.

خرج الأمر عن السيطرة، لأن الفرقاء السياسيين استسلموا للمشاعر والرغبة في تسجيل الإصابات، حتى خارج أشواط اللعب، فكان لا بد من مخرج قانوني يعاود الصورة إلى مواقع ضبط النفس والحؤول دون التصعيد، وما من طرف يجرؤ على الإقرار بأن أسلوبه في مؤاخذة الآخر لم يكن خياراً واحداً.

وفي مناسبة تخليد ذكرى تقديم وثيقة طلب laquo;الاستقلالraquo;، يبدو المشهد محفزاً. فقد تصارع laquo;الاستقلالraquo; و laquo;الاتحاد الاشتراكيraquo; طويلاً إلى حد تناحرات الإخوةndash; الأعداء، وفي النهاية وجدا نفسيهما أقرب إلى التفاهم التاريخي الذي عاود عقارب الساعة إلى وفاق تاريخي جديد. وإذا كان الحزبان لم يقفا يوماً ضد القضاء أحدهما في مواجهة الآخر، فالصحيح أيضاً أن مشاحناتهما فاقت أي تصور.

لكن الغريب أن laquo;الاستقلالraquo; الذي كان يرى في laquo;العدالة والتنميةraquo; حليفاً أقرب من أي حزب آخر، خلال المرحلة الراهنة، وجد نفسه في مواجهة مع نصفه الآخر، أقله على صعيد وحدة المرجعية. غير أن السياسة التي لا تفرق لا يمكن أن تجمع كذلك. وبعض المحطات توضع إلى الوراء بفعل نحت الطبيعة وتضاريس المواجهات الحزبية.