بكر عويضة

لو عرف إحساسُ الخجل طريقا إلى أحاسيس قيادات فلسطينية كثيرة، لربما وفروا على شعبهم الكثير من آلام بؤس العيش والموت، ولربما فروا بأنفسهم من بؤس صورتهم في أعين معظم الناس، لما في رقاب كثير منهم من حقوق آباء قضوا شهداء، وخلفوا من ورائهم الأرامل والأيتام وثكالى الأمهات، فتلاعب بها بعضهم، وأكل منها وشرب غيرهم، وجال في العواصم وصال رموز لهم بعدما أثرى البعض منهم وتباهى بما اغتنى من مال، وقد داس بقدم الفحش على كل خجل من الناس.

ما أتاك بحديث الخجل هذا؟ وما بك تكتب كمن أُغْضِب بقول قد قرأ أو سمع؟ أما أني مغضب، فنعم. وأما الذي أتى بحديث الخجل، فهو ما ختم به زين العابدين الركابي مقاله في هذه الجريدة نهار السبت الموافق 11 يناير (كانون الأول) الحالي: laquo;وكيف ينتصر ناس يحاولون هزيمة عدوهم بخدمته والمسارعة في تنفيذ ما يريد، وهو الشقاق الدائم بين الفلسطينيين؟! اخجلوا.. اخجلوا يا هؤلاء من أنفسكم ومن أولادكم وذراريكم، واخجلوا من أصدقائكم ومناصري قضيتكم. اخجلوا.. اخجلوا.. اخجلواraquo;.

يحدث أن يحرك غضب غيرك الناجم عن غيرته على ما تشترك معه في محبته، ما كظمته من قبل، أو قل إنه ينبش ما انطوى مع السنين، وحسبت أن ما تلا من فواجع قد طوى ما مضى من آلام. وما أنهى به الركابي مقاله فيه مزيج جمع الغضب مع الأسف والحزن، تجاه منهج انقسام أمسك بزمام قيادات الفلسطينيين، فكان تكرار النداء الغاضب ثلاث مرات، أن: laquo;اخجلوا.. اخجلوا.. اخجلواraquo;.

كيف لي ألا أغضب، إذ أحس غضب من كتب بالقلم بمثل ذلك الألم عن بعد (جغرافياً) وأنا المكتوي بالحرقة ذاتها، ليس فقط بحكم القرب (مكاناً)، حيث معاناة اللجوء صبياً، ثم بدء حلم العودة شاباً من قطاع غزة إلى بئر سبع، وإنما أيضاً عبر تجربة مهنية أتاحت محاورة قياديين فلسطينيين صحافياً، ومناقشة بعضهم سياسياً، والاستماع إلى ما يقولون خارج دائرة العلانية (Off The Record) في بعض مجالسهم الوطنية أو جلسات سمر بعضهم، كيف إذن لا تغضبني صيحة laquo;اخجلوا، اخجلوا، اخجلواraquo;؟ إذ أستحضر كم مرة صرخت أرواح الكثيرين إزاء أفعال بعض من فرض على الفلسطينيين أن يتولوا قيادتهم: حقا إن لم تستحِ فافعل ما شئت!

تمر بي هذه الأيام مشاهد عار نظام بشار الأسد في مخيم اليرموك الدمشقي، فتستحضر مآسي ما حل بمخيم شاتيلا وغيره في لبنان خلال ما عرف بحرب المخيمات، عندما تحالف فلسطينيون يقودون منظمات فلسطينية موالية لحكم الأسد الأب، مع حركة أمل المتحالفة آنذاك (1985) مع النظام السوري لطرد حركة فتح بزعامة ياسر عرفات من لبنان، والذي دفع ثمن تلك الحرب الوحشية هم العزل من اللاجئين، إذ توحش بالمشاركة في حصار تجويعهم وسفك دمائهم بعض من زعموا أنهم قادة ثوار، هدفهم تحرير الوطن السليب، لكنهم ما خجلوا أن يرهنوا القضية الفلسطينية لمزاج الحكم السوري وأجندته.

والارتهان للحاكم في دمشق قابله ما يماثله من إذعان قيادات فلسطينية لهوى الحكم في بغداد، فراحت ذراع صدام حسين تزرع في تربة منظمة التحرير الفلسطينية ما تشاء من تنظيمات، تغدق العطاء هنا وتمنعه هناك، هدفها من ذلك شق الصف الفلسطيني، ولو بوحشية القتل والاغتيال، طالما أن من هم على شاكلة صبري البنا (أبو نضال) لا يتورعون، ناهيك بأن يخجلوا، عن إطلاق الرصاص على من كانوا ذات يوم هم الرفاق.

ما بين دمشق وبغداد تنقل ارتهان بعض القيادات الفلسطينية، ثم إنه ارتحل، بلا خجل أيضا، إلى طرابلس معمر القذافي، بل تردد أن بينهم من وقف في صف الطاغية وقاتل مع كتائبه ضد الليبيين في ثورة 25 فبراير (شباط) وكأنما تكريس ديكتاتورية باب العزيزية شرط للعبور إلى القدس المحررة. تماما، كما سيق قول من قبل اعتبر أن عمان هي laquo;هانوي الثورةraquo;، وكأن عاصمة الأردن يجب أن تدمر لأجل أن ينهض laquo;طائر الفينيقraquo; الفلسطيني من الركام مجددا. أي ركام؟ أردني - فلسطيني، لبناني - فلسطيني، سوري - فلسطيني، فلسطيني - فلسطيني؟ ليس مهما، فطالما أن منطق laquo;أنا وأخي على ابن عميraquo; الأعوج يسمح بمنهج أن يخرج الفلسطيني من مقتلة بين إخوة السلاح ورفاق الدرب، إلى غيرها تفوق سابقتها سوءا، فليس ثمة ما يبرر السؤال، أو يستحضر الخجل.

بالنتيجة، لم يكن الاقتتال الذي أشعل فتنته في قطاع غزة عدد من قيادات حركتي فتح وحماس أواخر 2006 ومطلع 2007 أول حروب الفلسطينيين، ليس فقط بين تنظيم ومنافس له، بل داخل الفصيل الواحد، إنما تأمل أكثر الناس أن يكون آخرها، وأن تحترم قيادات الطرفين اتفاق مكة الموقع في الثامن من فبراير 2007، لا أن تمضي خمس سنوات بلا نتيجة، ثم يأتي اتفاق الدوحة (6 فبراير 2012) ويذهب، كما سالفه، وحال الانقسام على ما هو عليه، ربما لأن الأقلية المتكسبة منه لا يعنيها ما يلحقه من ضرر بأغلبية الناس، فأين هو الخجل؟

لقد دفن الإسرائيليون أرييل شارون مكللا بالغار من أغلبهم، ثمة من يعتبره laquo;البطلraquo;، ومنهم من سماه laquo;الملكraquo;، وأما laquo;الفخارraquo; الذي يستحقه في نظر معظم ذوي الضمائر الحية خارج إسرائيل، وبعض منهم داخلها، فهو أنه مجرم حرب بامتياز. لكن laquo;الفخارraquo; الفلسطيني الذي كسر بعضه بعضا بلا خجل، أتاح لشارون نفسه، غير مرة، أن يفرح بانتصار أهداه إياه عدوه ذاته. فهل من بعض خجل أيها القادة المسؤولون عن شعب فلسطين وقضيته؟ أكرر التساؤل مستعيرا صرخة زين العابدين الركابي في ختام مقاله المؤثر. وحتى لا يستبد اليأس ويطغى، لا بد من الأمل: لعل وعسى!