صالح القلاب
في المؤتمر الصحافي الأخير، الباهت، الذي شارك فيه وليد المعلم، تحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن ضرورة أن يؤمّن مؤتمر laquo;جنيف 2raquo; - الذي تعرض لـlaquo;خضةraquo; كبيرة نتيجة توجيه دعوة غير منطقية لإيران لحضوره، بالإضافة إلى مواجهة الإرهاب - الحماية للأقليات الطائفية والأقليات الإثنية القومية، وهذا لا بد من التوقف عنده بكل جدية لأنه يذكرنا بما حصل عندما أصبحت الإمبراطورية العثمانية بمثابة laquo;الرجل المريضraquo;، وبما حصل بعد الحرب العالمية الأولى عندما حاول المستعمرون الفرنسيون تقسيم سوريا إلى دويلات مذهبية وعرقية وبهذه الحجة التآمرية ذاتها.
في تلك الفترة المبكرة عندما بدأ انهيار الإمبراطورية العثمانية وبدأ الغرب يطلق عليها وصف laquo;الرجل المريضraquo; جرى تقاسم laquo;الحمايةraquo; على طوائف سوريا، التي كانت تضم أيضا بالإضافة إلى الدولة الحالية التي تحمل هذا الاسم نفسه، كلا من لبنان وفلسطين والأردن، وكان نصيب فرنسا أنها أعطيت مهمة حماية الموارنة خاصة والكاثوليك بصورة عامة، في حين أعطيت روسيا القيصرية حماية المسيحيين الأرثوذكس، وأعطيت بريطانيا العظمى التي كانت لا تزال لا تغرب الشمس عن أملاكها مهمة حماية الدروز واليهود.
ثم وكما هو معروف فإن المستعمرين الفرنسيين، الذين على أساس تقاسم الخرائط وفقا لاتفاقية سايكس - بيكو المشؤومة كانت حصتهم laquo;الانتدابraquo; على سوريا هذه الحالية ومعها لبنان، قد سعوا إلى تقسيم هذه الدولة العربية، بعد إفشال محاولة إقامة laquo;المملكة الفيصليةraquo;، وإقامة دويلة laquo;العلويينraquo; في جبل النصيريين ومنطقة اللاذقية امتدادا حتى بانياس وطرطوس في الجنوب ودويلة للدروز في laquo;جبل العربraquo; الذي عاصمته السويداء، وعلى أن يلتحق بهذه الدولة دروز الجولان وفلسطين ودروز لبنان، لكن هذه المحاولة المؤامرة لم يحالفها الحظ وسقطت سقوطا ذريعا تحت ضربات التوجهات والثورات العروبية والوحدوية، وأهمها ثورة صالح العلي وثورة سلطان باشا الأطرش اللتان التف حولهما الشعب السوري كله.
والغريب هنا أنه ورغم أن ثورة صالح العلي كانت ثورة وطنية وقومية عروبية فإن بعض ضعاف النفوس من الذين كانوا يعدون أنفسهم من رموز الطائفة العلوية ومن بينهم جد حافظ الأسد، أي جد والد الرئيس الحالي، الذي هو سليمان الأسد، قد وقعوا التماسا laquo;رفعوهraquo; إلى المندوب السامي الفرنسي يطالبونه فيه بإقامة دولة مذهبية لطائفتهم حماية لها من الأكثرية السنية، وهذا هو المعنى نفسه الذي قصده لافروف في مؤتمره الصحافي الآنف الذكر، لكنّ الوطنيين الوحدويين والعروبيين القوميين أحبطوا هذه المحاولة وأصروا على أن أبناء طائفتهم جزء من الشعب السوري الذي هو جزء من الأمة العربية، وعلى أن منطقتهم هي جزء لا يتجزأ من سوريا الموحدة.
ولهذا فإنه وبلا أدنى شك عندما أطلق سيرغي لافروف هذه القنبلة المدوية في مؤتمره الصحافي، الذي عقده في موسكو وشارك فيه وليد المعلم ومعه بثينة شعبان، كان يعرف هذا التاريخ تمام المعرفة وكان في قرارة نفسه، وربما لا يزال، يرى أنه قد حانت اللحظة التاريخية لتحقق روسيا الاتحادية هدفا قديما لم تستطع تحقيقه، لا عائلة رومانوف الإمبراطورية ولا أيضا الاتحاد السوفياتي laquo;العظيمraquo;!! وهو أن تكون لها الولاية على أرثوذكس سوريا وأرثوذكس الشرق الأوسط كله، وعلى دويلة علوية تقوم على سواحل البحر الأبيض المتوسط ذات الأهمية الاستراتيجية.
وهنا فإنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن بشار الأسد يبدو أنه يخطط لمستقبل، إنْ هو فقد موقعه الحالي كرئيس لسوريا المهشمة والمدمرة كلها، وهو سيفقده بالتأكيد، على أساس هذه التطلعات، بل على أساس هذه المؤامرات الروسية، وإنه في النهاية لن يكون أمامه أي خيار إلا هذا الخيار، لكن الواضح أن ما لا يدركه ولا يعرفه هو أن الطائفة العلوية laquo;الكريمةraquo; المختطفة الآن من قبله بذريعة أنها مستهدفة وأنه لا حماية لها إلا بالالتفاف حوله، سوف تتغلب وطنيتها ووحدويتها على هذه التوجهات الطائفية المريضة، وسوف تتغلب عروبتها على هذه المذهبية الضيقة، وسوف ينتفض عروبيوها ويسقطون كل هذه المحاولات كما انتفض عروبيو بدايات القرن الماضي ومزقوا laquo;التماس العارraquo; الذي كان وقع عليه سليمان الأسد إلى جانب آخرين من الذين طواهم التاريخ كما طوى كثيرين من الذين حاولوا حرف هذا البلد العروبي عن مساره القومي.
إن ما قاله لافروف عن أنه على laquo;جنيف 2raquo; أن يوفر الحماية للأقليات السورية يجب أن يأخذه الوطنيون والعروبيون السوريون على محمل الجد، إذ إن هناك مؤامرة يقودها فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف لتقسيم سوريا، إنْ هم فشلوا في فرض هيمنتهم عليها كلها، وإلا ما معنى أن يطرح وزير الخارجية الروسي هذا الطرح الخطير بعد أيام من إعطاء بشار الأسد امتيازات التنقيب عن النفط والغاز على الشواطئ السورية لروسيا الاتحادية التي حصلت أيضا على امتياز للنقيب عن الغاز والنفط على الشواطئ القبرصية وعلى laquo;الشواطئ الإسرائيليةraquo;؟
والمؤكد أنه من غير الممكن أن يتحدث سيرغي لافروف بهذا الكلام الخطير الذي يهدد المنطقة العربية كلها لو أنه لم يحصل مسبقا على موافقة إيرانية، فالإيرانيون كما بات واضحا، من خلال التصريحات التي أطلقها مؤخرا قائد الباسيج محمد رضا نقدي، يسعون لإقامة دولة مذهبية طائفية في جنوب العراق ويسعون إلى إقامة دويلة علوية على شواطئ المتوسط تمتد من كسب في الشمال وحتى طرطوس في الجنوب، مرورا باللاذقية، تكون رأس جسر جديد لنفوذهم وعلى غرار ما يشكله حزب الله في لبنان وما تشكله حركة حماس في قطاع غزة وما يشكله الحوثيون في اليمن.
إن هذا كله يشكل مؤشرا واضحا على أن البديل الجاهز لعدم إمكانية بقاء بشار الأسد في الحكم هو العودة إلى لعبة حماية الأقليات الطائفية القديمة التي طرحت أولا عشية الحرب العالمية الأولى، عندما أصبحت الإمبراطورية العثمانية بمثابة laquo;الرجل المريضraquo;، والتي طرحت لاحقا خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، وإلا لو أن لافروف بريء وصادق لأدرك أن الأكثرية السنية التي تشكل نحو 70 في المائة من أهل هذا البلد هم الذين يتعرضون للاضطهاد وأنهم هم الذين بحاجة إلى الحماية ليس منذ عام 2011 وفقط، بل منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه وتفرده بالسلطة بعد انقلاب عام 1970. لقد أصبحت كل المدن والمناطق ذات الأكثرية السنية مدمرة تدميرا كاملا من حلب إلى حمص إلى حماه إلى إدلب إلى دير الزور والرقة وحتى ضواحي دمشق، وهذا بالإضافة إلى كل مدن وقرى حوران في الجنوب، ثم لقد وصل عدد المهجرين من أبناء هذه الأكثرية، التي كانت تعرضت لمذبحة دموية في عام 1964 ومذبحة دموية أخرى في عام 1982، نحو سبعة ملايين وتجاوزت أعداد القتلى من بينهم الـ300 ألف، وهذا غير الجرحى وغير المفقودين وغير المعتقلين الذين يملأون كل laquo;المحتشداتraquo; والسجون السورية.
إذن هل هؤلاء بحاجة إلى الحماية لو أن لافروف صادق في ادعاءاته، ولو أنه غير متورط في مؤامرة لتقسيم سوريا وإقامة دويلة laquo;علويةraquo; لبشار الأسد تكون قاعدة متقدمة لروسيا الاتحادية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية التي ثبت أنها، أي هذه الشواطئ، ستكون أهم مستودع للغاز والنفط في هذه المنطقة في السنوات والعقود القريبة المقبلة..؟!
إنه لم يدمر في جبل العرب (الدرزي) ولا بيت واحد والحمد لله، وإنه لم يصب القرداحة وطرطوس واللاذقية أيضا ما أصاب حمص والرستن وحماه والقصير ودير الزور وحلب وإدلب.. وإنه لم يثبت أن هناك استهدافا للمسيحيين من قبل المعارضة المعتدلة، وأن من استهدفها وعلى نطاق ضيق هم المخابرات السورية والإيرانية والتنظيمات الإرهابية الممثلة بـlaquo;داعشraquo; وبعض التنظيمات الأصولية الأخرى التي استهدفت السنة أكثر كثيرا من استهدافها للمسيحيين الأرثوذكس وغيرهم.