عبدالله السويجي


ظاهرة الاعتماد على الآخر، التي يعيشها العالم العربي اليوم، لم يمر بها طوال تاريخه مروراً بكل الحقب الاستعمارية والتحررية، وهذا ما يجعله رهينة في يد أصحاب الشركات متعددة الجنسيات التي ترسم سياسة العالم، وبيد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهما المؤسستان اللتان تتحكمان بنصيب الدول من التنمية وكمية الطعام المخصصة لكل فرد، أما الوجه القبيح للعولمة فيصيب الثقافة العربية في عقر دارها، فتنتابها كوابيس لا تعد ولا تُحصى، في الوقت الذي تتوفر في العالم العربي الإمكانات المادية والموارد الطبيعية والعناصر البشرية التي يمكنها تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات جميعها .


وبما أن الشركات العالمية العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات تتنافس في إيجاد أسواق استهلاكية بعيدة المدى، فإن ذلك يقود حتماً إلى إبقاء مناطق عدة في العالم، ومن بينها العالم العربي، مناطق غير مستقرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، فتوجد نزاعات هنا وحروباً هناك تحت شعارات ومسميات مختلفة، بعضها له علاقة بالديمقراطية، والآخر بالتنمية وثقافة السلام، والثالث بحقوق الأقليات والطوائف والمذاهب والأعراق، وهذه الشعارات والمسميات تجد لها أرضاً خصبة في العالم العربي، نتيجة للتنوع البيئي والعرقي والديني، ونتيجة للجهل الذي يرافقه التزمت والتطرف والأعراف البالية، الأمر الذي يقود إلى صراع لا ينتهي إلا بالوصول إلى حالة الإنهاك، الذي يعود بمشاريع ضخمة وهائلة للدول المتقدمة والشركات، ومن بينها مشاريع إعادة التسليح، وإعادة الإعمار، وإعادة التأهيل، فيتحول العالم العربي إلى منطقة للخبراء في التقنيات والمعدات العسكرية والاتصالات والمصانع، بتمويل مشروط من المؤسسات المالية العملاقة، وحتى تُبقي الريح تنفخ في أتون الجمر والنار وتبعث ألسنة اللهب والحرائق وارتداداتها، أوجدت الرأسمالية الغربية والمؤسسات المتحكمة بالاقتصاد كياناً أسمته quot;إسرائيلquot;، شقّ قلب العالم العربي إلى عشرين قسماً، وجزأه إلى عشرين جزءاً، ثم أوجدت التطرف بدعوى إعادة تشكيل خريطة المنطقة وفق العرق والدين والمذهب، ليتحول العالم العربي إلى كيانات صغيرة جداً تحكم بعضها مجموعات عاطلة عن العمل، تمارس الدين ظاهرياً، وتجارة السلاح والمخدرات وتهريب الآثار باطنياً . وحتى تضمن نجاح عملها، وتسهيل عملياتها، تقوم هذه الكيانات بالتحالف مع دول وجماعات أخرى، وبذلك، أصبحت أسيرة للمصالح الأجنبية، وهذا الواقع لم يشهده العالم العربي في تاريخه القديم أو المعاصر .


لقد مر العالم المتقدم بمراحل صراع ديني وعرقي واقتصادي قبل آخر حرب عالمية، وانتهى الأمر به وبسكانه إلى ضرورة إعادة بناء الدول وفق مبدأ الاعتراف بالآخر وقبوله كما هو، شرط ألا تصادر جهة الأخرى تحت أي ذريعة، فكان مبدأ (الدين لله والوطن للجميع) هو المبدأ الذي تحققت تحت سقفه التنمية ونشأت الدول التي حققت الاكتفاء الذاتي وبدأت التصدير حتى سادت العالم . لكن ما يحدث من صراع دموي الآن في العالم العربي بين دولة وأختها، وبين أحزاب متناحرة داخل بعض الدول، وبين جماعات متقاتلة داخل كل حزب، حتى بين أفراد في الأسرة الواحدة، لا يبشّر بنتيجة مشابهة لتلك التي وصلت إليها دول العالم المتقدم، لاختلاف العقلية، ولعدم سير المسارات دفعة واحدة، ولتدخل قوى هذا العالم المتقدم بسير الصراع في العالم العربي حتى تبقيه ساحة استهلاكية في المقام الأول، الأمر الذي ينبئ في استمرار هذا النزيف المقيت، والاقتتال الجنوني، وما يكفل هذا الاستمرار هو فساد عقول العامة تحت ضغوط الحياة، فيبيع الفرد صوته لنائبه، ويتقبل الرشوة حتى يحسّن حياته (وليت تحسين الحياة في الجوهر إنما كلها تنصب على الكماليات وأجهزة الاتصال والمظاهر الكاذبة)، ويصل الأمر إلى إحياء تجارة الرقيق الأبيض، أو تجارة اللحم البشري التي تزدهر حالياً، عن طريق التفجيرات بكل أساليبها وأنواعها، فضلاً عن الاستعداد للتخابر والتعامل مع جهات عدوّة (فمجموعات العمالة لquot;إسرائيلquot; التي تم اكتشافها في الدول المحيطة بالكيان الصهيوني تثير الفزع)، الأمر الذي يعني ويوحي أن الفرد انفلت من عقال المؤسسة الرسمية حتى يؤمن حياته، وانفلت من منظومة القيم التي تحدد مستوى صفائه وتعايشه السلمي مع الآخر ومع نفسه، وأسباب أخرى يندى لها الجبين لما تعكسه من سقوط وتدنٍ في الأخلاق .


تأسست الجامعة العربية منذ أكثر من ستين عاماً، وتفرعت عنها مؤسسات ومنظمات ثقافية واجتماعية وتعليمية واقتصادية، ووقّع أعضاؤها اتفاقات حدودية وسياسية وعسكرية وأمنية وثقافية، وعقدت اجتماعات قمم كثيرة، واللجان الوزارية اجتمعت وناقشت واتخذت قرارات حاسمة ومصيرية وتنموية، لكنها، وبعد أكثر من ستين عاماً، وبدلاً من تمتين (أواصر الأخوة والصداقة) بين الأعضاء، زادت من شرذمتها، وبدلاً من تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز التعاون، زاد الاعتماد على الآخر بطريقة مجنونة، وبدلاً من تفعيل الاتفاقات بين الدول الأعضاء، قامت هذه الدول بتوقيع اتفاقات مع حلفاء متناقضين متحاربين، فانعكس ذلك على الدول العربية تفرقة وشرذمة ودماراً، وبدلاً من القضاء على الأمية زادت نسبتها، وبدلاً من تحقيق التحرر الاجتماعي زاد التطرف وموجات الاستبداد حتى وصل الأفراد . وعلى الرغم من كل صيحات الإصلاح إلا أن جامعة الدول العربية ظلت تعيش روتيناً قاتلاً، وبيروقراطية جوفاء، حتى انقسمت بشكل واضح مع ظهور ما يُسمى ب(الربيع العربي)، الذي لن تُكتشف آثاره الكارثية إلا بعد حصر حجم الدمار الذي طال الإنسان والبيوت والمؤسسات والبنية التحتية والتناغم الاجتماعي، فهل تعرف الجامعة العربية عدد اليتامى والأرامل والمعاقين والمشردين واللاجئين والمرضى والضائعين والضائعات أخلاقياً والمصابين النفسانيين الذين ستخلفهم موجة (الديمقراطية)؟، ستعرف ذلك بعد أن يحط شبح الدمار رحاله، وتبدأ المؤسسات والمنظمات بالقيام بعملية جرد للنتائج، وستذهلهم كما ستذهل العالم، الذي يتباكى بدموع التماسيح الآن، ويجمع الفتات من التبرعات لإنقاذ هؤلاء .
منذ أكثر من ستين عاماً، لم يستطع العرب حل مشاكلهم بأنفسهم، ولهذا يلجأون إلى الدول العظمى والمنظمات الدولية السياسية والاقتصادية، فمن مؤتمر دافوس حتى quot;جنيف2quot;، والدول العربية تحت تصرف الآخر لحل مشاكلها، والسؤال الذي يطرح نفسه ويحمل الإجابة في باطنه: أما آن الأوان ليكون لدى الدول العربية (جنيف عربي عربي)، يحل مشكلاتها وأزماتها المتراكمة؟ ألم تسمع بالمثل المهمل (ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك)؟
quot;جنيف2quot; أو quot;جنيف100quot; quot;لن يعيد الاستقرار الدائم والشريف والشامخ لأي نزاع في أي منطقة في العالم العربي، لأن المثل يقول: (من يده في الماء ليس كمن يده في النار)، فمن يده بالماء وجميع الأيادي في النار؟ سؤال وإجابة برسم الدهشة على وجوه النازحين الذين يموتون من الجوع .