عبد الوهاب بدرخان

مَن لم يكن قد عرف حقيقة النظام السوري بعد، رغم كل ما ارتكبه طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة وقبلها، أُتيحت له الفرصة في افتتاح مؤتمر laquo;جنيف 2raquo;.فالخطاب الذي جاء به وفده كان أشبه بدراسة مفصّلة للعقل السياسي - الأمني للنظام نفسه، الذي لم يخصص أي سطر أو عبارة للاعتراف بمسؤولية أو بأخطاء اقترفها، بل ألقى كل مسؤولية الأزمة على الخارج، من الجيران العرب وغير العرب، إلى الآخرين من عرب وأجانب.

ومع أنه كان يتحدّث laquo;باسم سوريا وشعبهاraquo; إلا أن لغة الحقد والكراهية والاحتقار للشعب وlaquo;ثورتهraquo; كانت نافرة ومنفّرة.

وقد عنى ذلك بوضوح أن النظام كرّس وجود شعبين، واحد لا يعترف به بل اقتلعه من أرضه قتلاً ومجازر وتهجيراً ونزوحاً، وآخر يعتقده موالياً له لكنه يعامله بالترهيب والتهديد وحتى باعتقال الآلاف لأنه يشكّ في هذا الولاء.

أراد الخطاب أن يُظهر نظام دمشق في موقع الضحية المظلومة التي تألّب عليها الجميع، لكنه نسي أن سوريا تحت المجهر والأضواء منذ التظاهرة العفوية الأولى في قلب العاصمة، ثم التظاهرة النسائية، وقبل laquo;خربشاتraquo; الأطفال على جدران درعا ثم مجزرة الجامع العمري فيها التي دشّنت حراكات يوم الجمعة.

أراد أن يُظهر خصومه على أنهم laquo;إرهابيونraquo; وعصابات، كما وصفهم منذ البداية، لكنه نسي أن الحَجر الذي فرضه على شعبه طوال خمسين عاماً ولّى وانتهى، وأنه لا يوجد في العالم شعب إرهابي بل جماعات إرهابية تبقى هامشية، لكن الوقائع في أمكنة عدّة أثبتت أنه يمكن أن يوجد laquo;إرهاب دولةraquo; أو أنظمة إرهابية.

ليس معلوماً على وجه الدقّة إذا كان كتبة الخطاب تلقوا توجيهات بتعمّد إعداد نص لا يعبّر عن laquo;دولةraquo;، وانما عن جماعة تشعر بأنها باتت مجرد laquo;سلطة أمر واقعraquo;. فخطب الحكومات والدول، حتى في المحن، يبقى هاجسها أن تؤكد حسّها بالمسؤولية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، واذا كانت لديها خصومة مع طرف أو أطراف، فلا يمكنها أن تغفل طبيعة العلاقات بين الدول وتقلّباتها، خصوصاً إذا كان لها ماضٍ مع هذه الأطراف وبالتأكيد سيكون لها مستقبل.

غير أن خطاب النظام في جنيف كان أقرب إلى ردحيات laquo;البعثraquo; التي زخرت بها مؤتمرات الحزب الحاكم، والأهم أنه اختار مثل هذه المناسبة الدولية الاستثنائية ليغلّب الرغبة في الثأر وlaquo;تصفية الحساباتraquo; ممن منعوا النظام من الإجهاز على شعب سوريا، ولا يزالون يساعدون هذا الشعب على البقاء والنجاة من حرب الإبادة التي تُشنّ عليه.

لم يبرهن النظام بخطابه أنه لم يعد معنياً بالمستقبل فحسب، بل إن الخطاب أدّى دولياً وعربياً إلى نتيجة معاكسة تماماً لما أريد منه.

لعل التوصيف المفصّل لمجريات العنف الأسود في سوريا هو الجانب الأهم في هذا الخطاب، وهو كافٍ لهزّ الضمائر وزلزلة النفوس، غير أن النظام قدّم عملياً تقريراً وافياً عما ارتكبت قواته لينسبها إلى قوات المعارضة.

فما فعلته جماعاته موثّق في صور وأشرطة وتسجيلات منذ الشهور الأولى، بكل ما تضمنته من إساءات دينية ومذهبية وإنسانية ومن تنكيل متعمّد لأناس عاديين لم تكن لديهم سوابق، ولا كانوا يحملون أسلحة، وإنما كانوا مجرّد عابرين من المدينة الخطأ على الطريق الخطأ، حاملين الأسماء الخطأ، ومنتمين إلى المذهب الخطأ.

بالطبع كانت هناك ممارسات سيئة ومقززة أقدم عليها بعض الأشخاص المنسوبين إلى المعارضة، لكنها بقيت ظواهر معزولة وغير مقبولة، ولم تتبنّاها أي جهة ذات صفة قيادية في المعارضة، ثم أنها لا تقاس بما تكشّف في الطرف الآخر حيث تبيّن أن العنف والوحشية الممنهجين نتيجة تدريب وlaquo;تثقيفraquo; وأنهما يُمارسان بموجب أوامر صريحة من القيادات.

عشية الدخول إلى قاعة المؤتمر كان العالم تلقى صدمة آلاف الصور التي كشفها ملتقطها لأحد عشر ألف سوري قضوا تحت التعذيب في سجون النظام، لهم أرقام وربما تكون لهم أسماء.

صورٌ مشابهة لتلك التي راجت طويلاً واخترقت الذاكرات باعتبارها من شواهد المحرقة النازية لليهود.

هناك من وصف ما رأى بـ laquo;الهولوكوست الوطني السوريraquo;، وهناك مَن يحاول الدفع باتجاه محاكمة المجرمين، اذ أن لهم أسماء نقلها أيضاً مصدر الفضيحة. لكن وفد النظام قال للمؤتمرين إنه معني فقط بـlaquo;محاربة الإرهابraquo; وسيستمر فيها. هناك جماعات إرهابية معروفة، بل إن مقاتلي المعارضة يطاردونها بعدما انكشف وجهها وتواطؤها مع النظام. ولا شك أن العالم يريد محاربة الإرهاب لكن مسألة اعتماده على النظام في هذه المهمة أصبحت أكثر فأكثر موضع شك.