عبد العزيز آل محمود

عندما تفرغت لإعادة إحياء صحيفة العرب في 2006، نصحني صديق بالاتصال بنائب عميد كلية الصحافة في إحدى الجامعات الأمريكية، والذي كان صديقا له، لأخذ رأيه والاستفادة من تجاربه، فقد عمل هذا الأمريكي لفترة طويلة في الصحف وانتهى به المطاف مديرا لتحرير صحيفة دولية مرموقة، ثم قرر أن يتجه إلى العمل الأكاديمي هاربا من مذبحة الصحافة.

اتصلت به على هاتفه النقال وعرفته بنفسي وبصديقنا المشترك فرحب، وسألني السؤال التقليدي الذي نسمعه دائما، كيف أستطيع أن أساعدك؟

أعطيته فكرة عن مشروع الصحيفة وعن الرغبة في إخراجها من التقليدية إلى أسلوب جديد لجذب القراء، وعن المنافسة الشرسة التي تعاني منها الصحافة المطبوعة مع وسائل التخاطب المجتمعي، كان الرجل مستمعا جيدا، وأنصت لي حتى انتهيت، ثم سأل عدة أسئلة عن سوق الإعلام وعن مستوى حرية الصحافة وعن القراء وأعدادهم واهتماماتهم، وأنهى أسئلته بالسؤال التالي: هل أنت متأكد أنك تريد أن تنشئ صحيفة في هذا الوقت؟

ثم تحولت أنا إلى المنصت لما يقول، فقد كان مندهشا من إنشاء صحيفة مطبوعة في الوقت الذي أصبحت الصحف الأمريكية تغلق أبوابها وتتخلص من موظفيها وتخسر أسواقها وقراءها لتتحول أغلبها إلى صحف إلكترونية محاولة الاستفادة من هذه الطفرة التي تقتل من لا يجاريها ولا يستفيد منها، أعطاني الكثير من الأمثلة التي تؤيد وجهة نظره ومنها الصحيفة التي كان يعمل بها، ثم أنهى حديثه بالقول: لعل لديكم الكثير من الأموال لتنفقوها.

انتهى الحديث.

في عام 2000 كان مدخول الصحف الأمريكية من الإعلانات حوالي 63.5 مليار دولار، وبحلول عام 2012 نزل هذا المدخول إلى 19 مليارا فقط، وفي نفس الفترة من الزمن ارتفع مدخول محرك البحث غوغل من الإعلانات من صفر إلى 46.5 مليار دولار، وخلال الفترة من 2001 إلى 2011 انخفضت أعداد الصحفيين في الصحف الأمريكية بنسبة 44 %.

لقد كانت العشر سنوات الماضية مذبحة للصحافة المطبوعة في أغلب دول العالم، هذه الوسيلة الإخبارية التي أثرت في العالم لعقود طويلة ولم تتأثر بمنافسة الإذاعة ولا بالتلفاز كثيرا، ولكنها لم تستطع مجابهة غوغل وغيرها من وسائل التخاطب المجتمعي، فألقت سلاحها ورفعت يدها وأعلنت استسلامها.

مرت وسائل الإعلام بمرحلة كانت تتسابق لإرسال أخبارها إلى مستخدمي أجهزة الهواتف الذكية وغدت تتصيد القراء صيدا، وتقدم لهم خدماتها مجانا في محاولة لجعلهم أرقاما لها تتفاوض بهم مع المعلنين، ثم ذهب هذا وانتهى تقريبا.

ابتكرت بعدها شركات المعلومات تطبيقات تفننت في تصميمها وإخراجها لتجعل من الأخبار سلعة مغرية للمستخدم والقارئ، وجهزت البنية التحتية لسيل مختار من المحتوى الإخباري، وأصبحت أجهزتنا تختار المحتوى الذي نريد فقط، من دون أن نتعب في البحث عنه.

أحاول أحيانا أن أدرس أسلوبي في التعامل مع المتغيرات السريعة في عالم المعلومات، فقد كنت سابقا أتابع صحفا أو مواقع بعينها، أما الآن فإن هناك الكثير من التطبيقات التي تأخذ من هذه المواقع ما أرغب أنا في قراءته، وتقدمه لي بشكل مختصر.

إن هذه الخاصية في تنظيم الأخبار والمحتوى جعلت من مصممي هذه التطبيقات وسطاء للأخبار تستخدمهم وسائل الإعلام لنشر محتواها، كما يحصل في الأسواق حين يقف الدلال ليصرخ في المشترين طالبا منهم المزايدة على السعر.

إننا أمام عالم ديناميكي غير ساكن، تختفي منه خدمات وتظهر أخرى، تجعلني أشعر أن تسارع الزمن ليس في الزمن ذاته ولكنه فيما يحصل فيه من متغيرات خلال فترة محددة، وأعتقد أيضاً أن الوظائف والمؤسسات التي لا تستطيع مجاراة هذه المتغيرات ستنتهي قريبا.