غسان العزي

&

&
بعد أكثر من شهرين على بدء الحرب الدولية على تنظيم "داعش"، يبدو واضحاً أنها لم تمنع تقدمه العسكري وتمدده إلى مناطق جديدة . صحيح أن التوقعات كانت قد أجمعت قبل بداية القصف الجوي على أنه وحده لن ينجح في القضاء على "داعش"، لكن المفاجئ هو انعدام أي تأثير لهذا القصف في معنويات التنظيم وقدراته العسكرية . وبالتالي فعلى الأرجح أن تنتهي كوباني- عين العرب بالسقوط رغم المقاومة الشرسة للمدافعين عنها ورغم كل النداءات الدولية لإنقاذها .
تنظيم "داعش" مصرّ على أخذ المدينة رغم أنه كان لديه خيارات أخرى أقل تكلفة وصعوبة . وإصراره يزيد من الأسئلة المحيرة . فهذه المدينة الاستراتيجية تقع في الوسط ما بين المدن الكردية السورية الكبرى الآيلة عندئذ للسقوط ومعها الحلم الكردي بالاستقلال، الأمر الذي لا يزعج الدول المتوجسة من مثل هذا الاستقلال .


وإذا كانت الحرب استمراراً للسياسة بوسائل أخرى، فإن الحرب على "داعش" في مكان والسياسة في مكان آخر . وأول مايتبادر إلى الذهن التساؤل حول الحاجة إلى عشرات الدول تحت قيادة واشنطن، من الشرق الأوسط إلى أستراليا وكندا مروراً بالقارة الأوروبية، من أجل محاربة ثلاثين ألف إرهابي محاصرٍ، وهل تقوم الأحلاف العسكرية عادة من دون وجود خطة سياسية وعسكرية متكاملة حيال العدو واليوم الذي يلي إيقاع الهزيمة به؟
من دون مثل هذه الخطة تبقى الحرب مجرد عمليات عسكرية تُستَهلك فيها أسلحة ومعدات تنتجها المصانع الأمريكية ويدفع ثمنها العرب بمبالغ يتوقع أن تعد بمئات المليارات من الدولارات للسنين المقبلة التي يعجز الخبراء عن تقدير عددها .
أخطر من ذلك هو أنه في غياب مثل هذه الخطة، فالظاهر هو الخلافات بين المتحالفين التي لم تعد خافية على أحد .
الخلاف الأمريكي- التركي واضح . أنقرة تسعى إلى منطقة عازلة وحظر جوي على الحدود مع سوريا وواشنطن تعتبر أن هذا متعذر التحقيق . لواشنطن أسبابها المرتبطة بعدم استفزاز إيران التي ترفض المطلب التركي ووجهت تهديدات علنية ضده على لسان نائب وزير خارجيتها عبد اللهيان . ثم إن هناك روسيا التي ما من شك في أنها ستستخدم حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن ضده . فالحظر الجوي والمناطق العازلة أمور قد تشعل فتيل الانفجار الإقليمي إذا لم تمر عبر مجلس الأمن .


لقد عانى الأمريكيون لإقناع تركيا بالانخراط في التحالف الدولي ضد "داعش"، ومايزالون يعانون لإقناعهم بوضع قاعدة أنجرليك في تصرف التحالف . ووصل الخلاف إلى حد مطالبة البعض في الغرب، ومنهم على سبيل المثال الفيلسوف والناشط السياسي الصهيوني الفرنسي برنار-هنري ليفي الذي لمع اسمه في ليبيا خلال الثورة على القذافي، بإعادة النظر بموقع تركيا في حلف الأطلسي . طبعاً هذا أمر لن يحصل نظراً للحاجة الأمريكية لتركيا وهي دولة أساسية في الحلف، ولكنه يرمز إلى مدى ما وصلت إليه الخلافات .
أردوغان لا يريد التدخل في كوباني- عين العرب لإنقاذ الأكراد المعادين له، لاسيما من حزب العمال الكردستاني، وفي الوقت نفسه لمساعدة نظام الأسد على الاستفادة من هذا التدخل . بالنسبة إليه حزب العمال و"داعش" وجهان للعملة الإرهابية نفسها، وعلى التحالف الدولي أن يحارب "داعش" ونظام الأسد في الوقت نفسه . وهو يعتبر أن أوباما هو المسؤول (وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون مع هذا الرأي) عن تفشي الظاهرة الإرهابية لأنه منذ البداية رفض تسليح المعارضة المعتدلة السورية ومساعدتها على إسقاط الأسد . وعندما وافق أوباما كان الوقت متأخراً إذ اشتد عود الإرهابيين وصار عصياً على الكسر . ثم إن تدريب المعارضين السوريين المعتدلين، وهو ما التزمت به أنقرة مؤخراً، يتطلب وقتاً طويلاً ولن يكونوا في كل الأحوال قادرين على هزيمة "داعش" وإسقاط نظام الأسد في الوقت نفسه . هذا النظام يستفيد من الحرب على "داعش" إذ يتفرغ للقضاء على المعارضة المعتدلة في انتظار أن يتسلم المناطق التي تتحرر من "داعش" على طبق من فضة . هذا ما يراه الأتراك .


هناك من المراقبين من يعتقد أنه لو قررت تركيا لتمكنت من القضاء على "داعش" في أيام قليلة، وفي هذه القناعة اتهام لها بأنها وراء التنظيم . ولكن حتى في هذه الحالة فالمسألة ليست في القدرة بل في القناعة، وأنقرة لن تقتنع في غياب خطة واضحة لليوم الذي يلي الحرب تتضمن سقوطاً للأسد ونهاية للمسألة الكردية الموضوعة على نار التفاوض مع عبدالله أوجلان المعتقل في تركيا .
وفي الانتظار، فإن الأكراد يدفعون ثمن هذه الخلافات في صفوف التحالف الذي استبشروا به خيراً وسارعوا إلى تأييده قبل أن يداهمهم الخطر ال"داعشي"، الذي من المتوقع أن يزداد هولاً وانتشاراً في الأيام المقبلة .