حسين حافظ

مع تولي الدكتور حيدر العبادي مهام تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وانتهاء حقبة مريرة في تاريخ العلاقات العراقية العربية، بدأ يظهر وعلى الفور ميل واضح من جانب الرياض وبغداد لطي صفحة الماضي والبدء بعلاقات جديدة، قوامها الوعي التام بالحاجة إلى الاستفادة من نظرية العمق الاستراتيجي لكلتا الدولتين، فكلتاهما تكمل الأخرى من الناحية الجيوسياسية والجيوأمنية والجيو اقتصادية في عالم مضطرب، تسوده التهديدات الإقليمية والدولية وتتصاعد فيه التحولات النظمية غير المنضبطة، كما المنظمات الإرهابية المنفلتة وغير المألوفة والتي تطمح إلى إنشاء دول جديدة بحدود مفتوحة .


ويعكس ذلك التحول أول توجه سليم بين الدولتين منذ سقوط بغداد في العام 2003م وحتى قبلها، ويمثل أول اتساع لمقبولية الدور العراقي في القضايا العربية الراهنة، ولعل من نافلة القول أن تكون رسائل التهنئة لتولي العبادي مهام رئاسة مجلس الوزراء العراقي ورسائل الشكر هي أولى البوادر التي تبعتها دعوة العراق لحضور مؤتمر جدة وما أعقبها في مؤتمر باريس من لقاءات سعودية عراقية على هامش المؤتمرين، كان يصعب تحقيقها في الفترة السابقة على تولي الدكتور العبادي .


المقبولية المجتمعية لطي صفحة الماضي هي الأخرى التي يمكن ملاحظتها بوضوح في كلا الدولتين من خلال قرار مجلس محافظة البصرة إلغاء المقاطعة الاقتصادية للبضائع السعودية، مثلما هو حال الفتاوى الدينية السعودية بتحريم أفعال داعش أو سواها من التنظيمات المسلحة العاملة في العراق، وكذلك القرارات الحكومية للمملكة بتجريم من يذهبون للقتال هناك .


كل ذلك عزز الاعتقاد أن تمتين فرص التعاون بين البلدين يحتل أهمية حيوية واستثنائية ليس لتحقيق المصالح الذاتية الضيقة، وإنما المصالح العربية على حد سواء، كذلك الشعور الجدي بأن مخاضاً جديداً تنتظره المنطقة العربية وبما ستسفر عنه نتائج المواجهة مع داعش الذي لم يعد خطراً محلياً يمكن تفاديه وإنما خطر عالمي ماحق لا يمكن التكهن بنتائج أهدافه النهائية وغايات الدول الداعمة الخفية .


الرؤية الموضوعية لهذا التحول تنطلق من فرضية مفادها (أن الانفتاح في العلاقات بين الطرفين سوف يكبح على الأقل تقدم (داعش) في المنطقة وتطور مشروعها وتهديد أمن وسلامة كلتا الدولتين، كما أنه يمثل استشعاراً مشتركاً لمدى ايغال القوى الاقليمية والدولية في مشاريع إشعال الفتنة المذهبية ودخول المنطقة في مواجهات نوعية تتطلبها مشاريع التجزئة العربية .


إن ما بدا واضحاً في تملص تركيا عن المشاركة الدولية في مكافحة "داعش" والعودة المترددة للإسهام الشكلي يبين دون أدنى شك مدى خطورة مشاريع القوى الإقليمية في تدمير القدرات العربية كما هو حال الاشتراطات الإيرانية للمشاركة في مكافحة "داعش" .


ووسط هذه الظروف والتطورات الاقليمية والملابسات الدولية يشكل التقارب السعودي العراقي منعطفاً مهماً وتحولاً نوعياً، وبات يمثل ضرورة مهمة في معالجة مجموعة من المهام القومية والدولية على حد سواء .
الأولى - هي مهمة تحقيق السلام والاستقرار والأمن الإقليمي في أخطر المناطق حيوية للمصالح الدولية، ويمكن أن يشكل هذا التحول نقطة البداية لانطلاق مشروع مصالحة عربية عربية جادة ومثمرة، كما وأن هذه المهمة لا يمكن تحقيقها في ضوء التقاطعات التي أسهمت في ارسائها قوى معروفة وربما أسهمت "داعش" في الكشف عن جوانب مهمة من تلك الإسهامات إذ لم تكن المنطقة العربية قد تعرضت الى مثل هذه التهديدات الخطرة من قبل .
الثانية إن الاعتدال السياسي وبناء علاقات متوازنة بين الدول العربية ضرورة مطلبية ليست محلية وانما اقليمية ودولية في ضوء تداعيات السياسات المتطرفة على الأمن الدولي برمته، وما أفضت إليه السياسة العراقية السابقة لمرحلة العبادي من نتائج بائسة هي التجربة الأعمق في تاريخ العلاقات العراقية العربية والعراقية الدولية، والتي ينبغي تجاوز تداعياتها على المستوى العربي على الأقل . ويبدو أن الظروف التي يمر بها العراق هي من أصعب الظروف في تاريخه المعاصر .


المهمة الثالثة - هي أن العراق والمملكة العربية السعودية وبما يمتلكان من قدرات استراتيجية فائقة الأهمية في العالم قادرتان اذا ما استمر هذا التقارب على تغيير موازين القوة في منطقة الشرق الأوسط، إذ لا ينبغي أن يتوقف هذا التقارب بحدود مكافحة (داعش)، فهذا التنظيم بالحتم إلى زوال، ولطالما ساهمت الانقسامات الدولية في مرحلة الحرب الباردة في منع التقارب بين الدولتين في إدراك دولي لمدى خطورة تقاربهما على المصالح الدولية، وأن التحول الحاصل في البيئة الدولية الراهنة ينبغي أن يستثمر لبناء علاقات متميزة في ضوء تميز علاقاتهما مع الولايات المتحدة والقوى العالمية الكبرى، وما أقدمتا عليه في هذه المرحلة من تقارب يمثل تحولاً استراتيجياً نوعياً، ينبغي المحافظة علية انطلاقاً من سلامة فرضية العمق الاستراتيجي لهما، وتأثير ذلك في الاستقرار والأمن الاقليمي والدولي .