‏بهجت قرني

انتابتنى مشاعر متناقضة عندما قرأت خبر مقابلة الرئيس السيسى مع هنرى كيسنجر، من ناحية، المطلوب من أى رئيس أن يتواصل مع المفكرين، داخليا وعالميا، فهم مصدر للمعرفة ويساعدون على فك الكثير من طلاسم السياسة أو المجتمع الذى ليس لأى رئيس الوقت للقراءة عنها أو متابعة تطوراتها

ولذلك ينتشر فى الحديث السياسى وغيره تعبير briebing أو تقديم تقرير موجز وواضح عن موضوع معقد أو مباحثات شائكة.
كما أن كيسنجر نفسه من الشخصيات المهمة فى تشكيل التاريخ المعاصر، ليس فقط أمريكا ولكن عالميا أيضا هو فعلا من أشهر وزراء الخارجية فى العالم كما أنه أكثر وزير كتب كتبا، فقد كتب كتابين عن تجربته كوزير للخارجية، بعد أن كان قد كتب كتابا ضخما عن تجربته كمستشار للأمن القومى مع نيكسون فى نهاية ستينيات القرن الماضي: سنوات البيت الأبيض. بل إن رسالته للدكتور والتى نشرت بعد ذلك ككتاب عن الرئيس النمساوى ميترنيخ ومحاولته إرساء الاستقرار فى أوروبا فى بداية القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية، لا يزال هذا الكتاب عن «استعادة العالم» كلاسيكيا ليس فقط عن ميترنيخ وأسلوب قيادته فى العالم التى تأثر بها كيسنجر، ولكن عن نظرية العلاقات الدولية نفسها.

بل إن كيسنجر كتب بعد تقاعده، وبالإضافة إلى مذكراته السابقة الذكر ـ عشرة كتب مهمة بعضها ذائع الصيت، بل إن كتابه الأخير عن النظام العالمى الذى ظهر فى الأسواق منذ نحو شهر فقط هو الآن فى طبعته السابعة عشرة، وله تأثير كبير على كثير من ممارسى السياسة حتى إن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والمرشحة المحتملة لانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة بعد نهاية مدة أوباما فى عامين ـ هيلارى كلينتون ـ قامت بمدح الكتاب على صفحات جريدة مؤثرة مثل الواشنطن بوست، بل اعترفت هيلارى كلينتون ـ وهى مرشحة الحزب الديمقراطى بأنها كانت تستشير كيسنجر كثيرا، وهو من أقطاب الحزب الجمهوري، والذى اعترف هو الآخر أنه رغم احترامه لهيلارى كلينتون إلا أنه سيؤيد المرشح الجمهورى فى الانتخابات الرئاسية القادمة، حتى دون أن يعرف من هو، وذلك بدافع الولاء الحزبى وحماسه للاتجاه اليمينى فى السياسة الذى يمثله هذا الحزب الجمهوري.

هذا الفكر المتقدم لرجل فى عامه الـ91، خارج للتو من المستشفى بعد عملية قلب خطيرة ويمشى منذ أعوام على عكاز، يعكس قوة تعليمه وخاصة أستاذيته فى إحدى أعرق الجامعات فى العالم، جامعة هارڤارد.

وفى الواقع فإن تأثيره ـ سلبا أو إيجابا ـ بين طلابه تلاحظه حتى قبل أن تصل إلى قسم العلوم السياسية، أو دراسة الحكم والحكومة كما تسميه الجامعة، وبمجرد أن تتجول فى هارفارد سكوير أو حتى مدينة كامبردچ الصغيرة التى تقع فيها الجامعة (وأيضا معهد ماساتشتوس للتكنولوجيا الأشهر)، كيسنجر إذن من قادة الفكر السياسى العالمي، سابقا وأيضا حاليا، كما أنه يتميز عن زملائه فى جامعة هارفارد مثل صموئيل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات أو ستانلى هوفمان، الخبير فى الشأن الأوروبى وكذلك السياسة الخارجية الأمريكية ـ إن كيسنجر ربط بين الفكر التنظرى والممارسة الفعالة كمستشار للأمن القومى، ثم وزير للخارجية ذى تأثير عالمى واضح حتى بعد أن ترك منصبه منذ نحو 40 عاما.

أين إذن المشكلة؟ لماذا انتابتنى مشاعر متناقضة من اختيار الرئيس السيسى ومستشاريه ـ مقابلة كيسنجر؟ السبب باختصار شديد أن كيسنجر يعيش فى الماضى ولا يتخلى عنه، بل والأخطر من هذا أن كيسنجر ينظر لهذا الحاضر بعدسات الماضي، أى يسقط هذه العدسات على الأحداث الجارية ويفسرها طبقا لهذه العدسات وليس طبقا لما يحدث على أرض الواقع الحالي. هو يرجع دائما إلى إطروحته للدكتور ميترنيخ عن «استعادة العالم» عنوان كتابه عن القرن التاسع عشر، ليؤكد أن هناك قوانين عالمية تحكم هذا العالم، وهى قوانين حسب اعتقاده لم تتغير منذ مكياڤيللى فى القرن الساس عشر وكذلك معاهدة وستڤاليا فى 1648 التى أرست قواعد الدولة القومية بعد تحررها من سيطرة الكنيسة ونهاية حروب الثلاثين عاما، أو ما تسمى أيضا حروب الأديان.

قد يكون ذا مغزى أن كيسنجر لا يستخدم الكمبيوتر، هو بالطبع على معرفة بعالم الاتصالات والتكنولوجيا، بل زار مقر جوجل فى كاليفورنيا مرتين، ولكن هذا لم يغير البتة من عدساته الفكرية وبنيته الذهنية، هو رجل يسقط الماضى على الحاضر وبسبب ذكائه، ومعرفته التاريخية الموسوعية ـ خاصة التاريخ الأوروبى فى القرون السابقة ـ فهو يبدو موثقا وحكيما، وبالتالى تبدو نصائحه واقعية ومطلوبة، لقد قال عنه أحد معاونيه: إن هنرى قادر على التحدث مع سبعة أشخاص مختلفين، ثم استخدام الوقائع التاريخية للإيحاء إليهم ـ رغم اختلافاتهم الجذرية ـ إنه يفكر بنفس طريقة كل منهم. هل هذا ما يحتاجه رئيس جديد على السياسة الدولية؟ تأثير كيسنجر وأفكاره فى منتهى الخطورة لأنها توحى بتكرار الماضى فى وقت سريع التغير، ويحتاج إلى فكر مغاير، فكر إبداعي، خارج الصندوق، قد كان المأمول أن مقابلة كيسنجر ذى الاتصالات وإذا كان لابد منها، فعلى الأقل توازنها مقابلات مع قادة فكر آخرين ـ أقل شيخوخة فى الفكر وأقل عيشا فى الماضي، مثل ريتشارد هاز مثلا، الذى عمل مع جورج بوش وترك ليصبح رئيسا لمجلس الشئون الخارجية ويستمر فى كتابات مجددة، أو حتى الأمريكى الهندى فريد زكريا ـ رئيس التحرير السابق فى مجلتى نيوزويك والتايم ومقدم البرنامج الأسبوعى الشهير عن السياسة العالمية فى الـCNN، سى إن إن.
&