الحسين الزاوي

تقف تونس على عتبة موعد سياسي جديد قبل أيام قليلة من تنظيم الانتخابات التشريعية التي ستشهدها البلاد يوم 26 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، والتي سوف تمثل لحظة حاسمة وفاصلة بالنسبة للتجربة الديمقراطية في تونس، كما ستكون بمنزلة امتحان حقيقي بالنسبة للمشروع الديمقراطي في دول ما أضحى يعرف ب"الربيع العربي" . فقد أضحت الحاجة ماسة إلى تدشين مرحلة جديدة تتجاوز النزوع السلطوي المهيمن للدولة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من جهة، والضعف المؤسساتي وتراجع هيبة الدولة خلال هذه المرحلة الانتقالية، من جهة أخرى . ورغم أن العديد من التونسيين باتوا أقل إيماناً بفضائل ومزايا ثورة الياسمين وبدأوا يشعرون أن سقف التوقعات كان أكبر بكثير من النتائج السياسية الهزيلة التي تم تحقيقها، إلا أن المشروع الوطني التونسي يتطلب تجنّد الجميع خلف النخب السياسية والثقافية من أجل الاستجابة لنداء الوطن، وصولاً إلى تحقيق النهضة الشاملة التي يصبو جميع التونسيين إلى تحقيقها .


لقد أبانت الحملة الانتخابية التي انطلقت منذ 4 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن الاستقطاب السياسي الحاد بين الإسلاميين والقوى السياسية المدنية الأخرى على اختلاف توجهاتها، ما زال يؤثر بشكل حاد في مكونات المجتمع التونسي؛ حتى وإن كان علينا أن نعترف أن الطابع المفتوح لهذا المجتمع، يجعل القوى المتطرفة تشعر بالعزلة، وربما قد يندفع قسم منها إلى دعم الحركات الإرهابية، لكن الشيء الأساسي الذي لا يحتاج- في اعتقادنا- إلى تأكيد، هو أن القسم الأكبر من التونسيين وصلوا إلى قناعة أساسية مؤداها، أن التوافق حول الحد الأدنى من شروط الممارسة السياسية المشتركة، يمثل القاعدة البديهية الأولى التي يجب على جميع الأطراف الالتزام بها من أجل المحافظة على السلم الأهلي والاستقرار المجتمعي . حيث إنه وبعد أكثر من سنتين من الصراع بين حركة النهضة الإسلامية وخصومها من الليبراليين واليساريين، قبلت حركة النهضة في نهاية المطاف بمبدأ تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة من أجل الإشراف على هذه الانتخابات، وجنبت بذلك تونس ويلات الاحتراب الداخلي الذي تعيش على وقع مآسيه دول "الربيع العربي" الأخرى .


التحدي الآخر الذي سيواجه هذا الاستحقاق الانتخابي التاريخي، يتمثل في ترشح الكثير من الوجوه السياسية المحسوبة على نظام بن علي البائد، سواء تعلق الأمر بالانتخابات التشريعية أو بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وهي وجوه تقدم نفسها على أنها تملك كفاءة عالية وثقافة راسخة في تسيير مؤسسات الدولة، وتدافع عن نفسها بالقول إنها ليست متورطة في الممارسات القمعية للنظام السابق . بينما يرى الكثير من ممثلي النخبة التونسية وشباب الثورة أن عودة هذه الوجوه يمثل أحد أبرز الأخطار التي تهدد التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة إلى جانب خطر الحركات الإسلامية المتشددة .


والحقيقة أن هذا النقاش المتعلق ببقايا الأنظمة التي جرت الثورة على قياداتها الحاكمة، يمثل تحدياً يصعب القفز عليه ويصعب في اللحظة نفسها إيجاد معادلة متوازنة بشأنه، فمن جهة أولى، يذهب الكثيرون إلى القول إن الأنظمة التي ظلت تحكم لسنوات عديدة استقطبت العديد من الكفاءات الوطنية المهمة التي لم تكن مسؤولة عن رسم الخطوط الكبرى لسياسة الدولة، ومن الصعب بالتالي تهميشها بالكامل دون إلحاق ضرر بالغ بمؤسسات الدولة، ومن جهة ثانية هناك دائماً إمكانية حقيقية وربما قوية بأن تُعيد هذه الإطارات إنتاج الممارسات المتسلطة والفاسدة للنظام السابق . وبالرغم من كل ذلك فإن الرأي الغالب يذهب إلى التأكيد أن الجديد يولد من رحم القديم، وأنه لا وجود لقطيعة كاملة داخل الدول والمجتمعات وإلاّ سقط الجميع في نوع من العدمية والفوضى .


ويمكن القول في سياق متصل إن حركة النهضة ستخوض غمار هذه الانتخابات التشريعية بوجوه جديدة، بعد أن تخلت عن القسم الأكبر من نواب البرلمان السابق . وتريد أن تثبت بذلك لكل خصومها أنها تؤمن حقيقة بمبدأ التداول السلمي على السلطة، وأن الأخطاء التي ارتكبت خلال قيادتها للحكومة التونسية تعود لسببين رئيسيين، يرتبط أولهما بقلة الخبرة والتجربة في مجال تسيير شؤون الحكم بعد سنوات طويلة من النضال في المعارضة، ويعود السبب الثاني إلى صعوبة المرحلة الانتقالية التي جعلت القسم الأعظم من التونسيين يتعجّلون في مطالبهم المتعلقة بقطف ثمار الثورة، دون انتظار نتائج الإصلاحات الهيكلية التي جرى تطبيقها على أرض الواقع . ويرى خصوم الحركة أن إخفاقها في تسيير المرحلة الانتقالية نابع في الأساس من التصورات الإقصائية والتسلطية التي تميز الحركات الإسلامية، بصرف النظر عن كونها متشددة أو معتدلة، لأن الاعتدال لدى البعض منها لا يعدو أن يكون واجهة مفبركة تخفي أيديولوجيا شمولية .


أما "نداء تونس" الذي يتزعمه الباجي قايد السبسي، والذي يمثل القوة الليبرالية الكبرى التي تطمح لمواجهة العودة المحتملة لرموز حركة النهضة الإسلامية، فيسعى إلى حشد القسم الأكبر من القوى المدنية من الليبراليين واليساريين من أجل الفوز بأكبر عدد من المقاعد النيابية، بهدف طي صفحة حكم حركة النهضة والعودة بتونس إلى مسار مؤسساتي صحيح قادر على إعادة إحياء المشروع الحداثي، الذي دشنه خير الدين التونسي وأرسى دعائمه زعيم الحركة الوطنية التونسية الحبيب بورقيبة، إذ يرى الكثير من المحللين للشأن الداخلي التونسي أن الميراث البورقيبي يمثل إحدى الأوراق الرابحة في معركة حسم هذه الانتخابات التشريعية والرئاسية .


وبين وعود النهضة ومشاريع النداء من أجل استعادة رونق الحداثة وبريقها، سيحاول الناخبون التونسيون صياغة معادلة متوازنة قادرة على المحافظة على استقرار الدولة وديمومتها، بعد أن استيقظوا من حلم الثورة، واقتنعوا أن طريق التنمية شديد الالتواء والصعوبة ومخضب بالعرق والدموع