فـــؤاد مطـــر

هذا القرار الأخلاقي من حكومة السويد بأنها ستعترف بدولة فلسطين والذي أعلنه يوم الجمعة 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2014 رئيسها ستيفان لوفين الفائز في الانتخابات البرلمانية قبل شهر من الإعلان، كنا كعرب ومسلمين نتطلع إلى أن تكون بريطانيا هي البادئة في اتخاذ هذا الموقف. ونقول ذلك على أساس أن مسبب العلة هو من عليه إزالة شائبته هذه، وأن الفعل الظالم تزال آثاره بتصحيح مرتكبه لهذا الفعل والتعويض، بسخاء من يريد إراحة ضميره، على الأجيال التي ألحق هذا الفعل بها أذى لا مثيل له.. باستثناء الأذية التي لا يزال يتسبب بها للسوريين نظامهم المعاند الذي يلغي بالتدرج دولة كانت ذات رقم صعب في المعادلة الإقليمية ثم ها هي هيكل نظام يقتصر الاعتراف به على قلة من الدول غير مؤثرة وعلى لاعب دولي وآخر إقليمي لا يعنيهما في شيء أي حال باتت عليه سوريا.


الفعل البريطاني الآثم كان ذلك الوعد الذي تضمنته رسالة وجهها في مثل هذا الخريف قبل 97 سنة (2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917) وزير خارجية بريطانيا زمنذاك آرثر بلفور إلى اللورد آرثر روتشيلد الذي كان زعيم الحركة الصهيونية يبلغه «أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بالعطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل قصارى جهدها لتحقيق هذا الهدف».


وفي ذلك الزمن كانت العصابات الصهيونية تتشكل وتدرب الشبان اليهود على استعمال السلاح وتغسل الأدمغة على نحو ما اقتبسته منهم الجماعات الإسلاموية التي تمتهن العنف إلى حد نحر الرقاب، مع فارق أن العصابات الصهيونية أبقت المجندين في منأى عن العمليات الانتحارية وركزت على حلم الوطن التوراتي كما جماعات الزمن الراهن التي من جملة ما تركزه في التجنيد على مستحبات نعيم الحياة مع الحور العين في «الفردوس الداعشي».
أهمية ما بات يعرف بـ«وعد بلفور» أنه صك من بريطانيا العظمى والتي كادت تتقلص إلى صغرى لو انتهى الاستفتاء في أسكوتلندا إلى خيار الاستقلال، وأنه صك مضمون التصريف كونه معطى من دولة تحتل فلسطين رغم إنها لا تملك في أي حال حق تجيير وطن من شعب إلى آخر. ولكن الآرثريْن (آرثر بلفور البريطاني وآرثر روتشيلد الصهيوني) وبدعم من ديفيد لويد جورج رئيس حكومة بريطانيا في ظل الملك جورج الخامس ارتكبوا هذا الخطأ الذي في كل لقاء سعودي - بريطاني كان هنالك لفت نظر في شأنه وعلى خلفية العبارة المصوغة بأسلوب ما قل ودل التي قالها الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال زيارته الرسمية الأولى لبريطانيا (1988 وكان ما زال وليا للعهد) لرئيسة الحكومة مارغريت ثاتشر «إن وعد بلفور عار يجب على الجيل الحالي في بريطانيا أن يصححه...».. ولقد انقضى ربع قرن على هذا الطلب - النصيحة وتسبب الإثم البلفوري الذي على أساسه كان الاعتراف الدولي بإسرائيل خلال هذه السنوات بالمزيد من الظلم والاعتداءات أكثرها وحشية ذلك العدوان الأخير على غزة الحمساوية، من دون أن تتخذ بريطانيا القرار الأخلاقي الذي جاء من دولة السويد بدل أن تكون هي المبادرة. ثم ها هو مجلس العموم البريطاني وتحت وطأة أصابع اللوم والعتب مجتمعة الموجهة إلى الإثم البريطاني الذي حصل في عهد الملك جورج الخامس، يعقد يوم الاثنين 13 أكتوبر 2014 جلسة «تصويت غير ملزم على الاعتراف بدولة فلسطين». ورغم امتناع رئيس الحكومة كاميرون وسائر الوزراء عن التصويت فإن الاقتراح/ المذكرة من جانب عضو حزب العمال المعارض غراهام مورس حظي بتأييد 274 عضوا بينما رفضه 12 الأمر الذي يعني أنه فاز بتأييد كاسح ربما لأن صياغة الاقتراح كانت عاقلة وهي «يعتقد مجلس العموم (البرلمان) بأنه يجب على الحكومة أن تعترف بدولة فلسطين إلى جانب دولة إسرائيل باعتبار ذلك يشكل إسهاما في ضمان تطبيق حل الدولتين عبر التفاوض».


جاء القرار الأخلاقي السويدي ليحرج ليس فقط بريطانيا وإنما يحرج دولا مستفيدة من خيرات المنطقة العربية مثل فرنسا التي تكتفي بموقف متحذلق يتلخص في عبارة للمتحدث باسم الخارجية «إنه سيتعين في وقت ما الاعتراف بالدولة الفلسطينية..». ومثل الولايات المتحدة التي فاجأتها الخطوة السويدية فسارعت إلى التعليق عبر المتحدثة باسم الخارجية بالقول: «إن أي اعتراف دولي بدولة فلسطينية هو أمر سابق لأوانه» الأمر الذي ردت عليه الخارجية السويدية بالقول «كان من المتوقع أن نتعرض لانتقادات جراء اقتراحنا، لكن السياسة السويدية الخارجية لا يمكن أن تقرر من قبل واشنطن..»..


القرار الأخلاقي لا عودة عنه، ولا شك في أنه سيبعث القلق في النفس الإسرائيلية ويستقر كحالة عذاب ضمير في دول الاتحاد الأوروبي لأن ثالث أكبر دولة في هذا الاتحاد قررت أن تكون البادئة في اختراق هذا «الاحتلال» الصهيوني للقرار الأوروبي ولبعض دول العالم. وهي استندت في خطوتها إلى موجبات التصرف الأخلاقي في الدرجة الأولى، إذ ليس من الأخلاق في شيء أن يبقى الموضوع الفلسطيني على نحو ما هو عليه للسنة الـ66 على التوالي. وهي أيضا لم تتخذ موقفها لتستعمله كبضاعة تريد مقايضتها بمنافع علما بأن الانفتاح عليها اقتصاديا وسياحيا وسلاحيا كدولة متطورة ومحكومة بنظام ملكي دستوري ونظام برلماني، من جانب دول الاقتدار العربي كفيل بتعزيز هذا التوجه. فهي عمليا وضمنا تقول بالقرار الذي اتخذته، إن المبادرة العربية للسلام هي الحل وهذا يعني أنه كما لقيت المبادرة التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز (كان ما يزال وليا للعهد) على القمة العربية الدورية في بيروت عام 2002 موافقة بالإجماع عليها، فإن القرار السويدي سيحدث ولو بعد حين التفافا حوله يبدد المظالم الناشئة عن الالتفاف الإسرائيلي عليه وإلى درجة أن نتنياهو يعطي الإدارة الأميركية «درسا» بأصول القيم وتزدري الإدارة حصى هذا «الدرس»، كما يخاطب رئيسها عندما يزور أميركا ويستقبله في البيت الأبيض بأسلوب المستقوي على هذا الرئيس الذي كان من أخلاقيات الحكام الكبار الشأن أن يسبق هو الآخر (أي أوباما) السويد في الموقف الأخلاقي الذي اتخذته ما دام دشن الولاية الأولى له بوعد الدولتين وهو وعد كان السير قدما في تنفيذه كفيلا بقيام دولة فلسطينية لن يجدي التفاوض نفعا في استحداثها وإنما الذي يجدي هو قرار على المستوى الدولي كان من المحرمات وبات ضرورة أخلاقية نتيجة الخطوة السويدية، ومن دون التوقف عند التشبث الإسرائيلي الذي سيلجأ إلى أسلوب التشهير والإكثار من الترويج ـ«الهولوكوست» الذي يعادل ما فعله عدوان نتنياهو بالبشر والحجر في الأراضي الفلسطينية وجاء مؤتمر المانحين يوم الأحد 12 أكتوبر 2014 في القاهرة ليجمع 5.4 مليار دولار من 30 دولة عربية وأجنبية لإعادة إعمار غزة، ويتزامن مع هذا المؤتمر الناجح بامتياز وعلى وقع عبارة الرئيس محمود عباس يوم الجمعة 26 سبتمبر (أيلول) 2014 من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة «دقت ساعة استقلال دولة فلسطين»، إن الحكومة الفلسطينية عقدت للمرة الأولى منذ تشكيلها برئاسة رامي الحمد الله في يونيو (حزيران) 2014 اجتماعا في غزة الأمر الذي سيشجع المانحين على الوفاء بما التزموا به خصوصا في ضوء وعد رئيسها الذي يلخص اسمه الثاني «الحمد الله» واقع الحال بمعنى الحمد لله على ما انتهت إليه الأمور بإنهاء الانقسام بين «فتح» و«حماس».. إلا إذا اقتحمت إيران حالة الوفاق المستجدة بين أبناء القضية الواحدة.


نخلص إلى القول: هل بعد الآن سيزور نتنياهو البيت الأبيض معتديا قاضما مهددا الحرم القدسي؟ وهل لن يرى في التصويت البرلماني البريطاني بأنه مقدمة لمحو الإثم البلفوري؟ وهل لن يأخذ في الاعتبار أن ما بدأته مملكة السويد كان بمثابة الترياق ستأخذ به الدول الأوروبية مجتمعة أو الواحدة تلو الأخرى؟ وهل إن بريطانيا إليزابيث الثانية التي حافظت بالإطلالة الطيبة على أسكوتلندا جزءا من المملكة ستكون نقيض بريطانيا جدها جورج الخامس «ملك بريطانيا العظمى وآيرلندا وإمبراطور الهند» قبل 97 سنة الذي في زمانه ارتكب رئيس حكومته إثم الآثام؟