يوسف الكويليت


ما هو المسمى الذي ينطبق على وضعنا الحالي، زراعي، صناعي، نفطي، ريعي، أم سياسي تدفعه حلقات المحيط الملتهب في المنطقة؟

ثم دعونا من التعريفات والمصطلحات التي تقول «إن السياسة هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وإنها السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية» إلى آخر مقولات وتفسيرات فلسفية لهذا العلم القديم الجديد وكل ما يتعلق بمبادئ السلطة والمجتمع..

لنا خصائص معينة تجمعنا جغرافياً ودينياً وثقافياً ولغوياً، وقد استطعنا التغلب على الأبعاد الجغرافية بإنشاء الطرق والمطارات والمدن التي صهرت تلك المجاميع بروح وعلاقات المجتمع المدني، رغم تباينات اللهجات والطبائع والتقاليد، غير أن حركة التعليم التي امتدت للمدينة والقرية، ومغريات الارتقاء بالذات والوصول إلى الوظيفة أو العمل الحر الذي يعتبر ميدان المنافسة، جعلت البدايات الأولى في مراحل الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تفرز جيلاً شبه منفصل عن ثقافة آبائه وأجداده، وتطلعاته بأن يكون مؤسساً للانتقال من حالات القرية وشبه المدينة إلى مستوى متقدم في بناء شبكة علاقات تتسم بالوعي الجديد رغم الظروف الاجتماعية التقليدية والدخول المادية المتواضعة..

طابعنا العام ديني متمسك بعقيدته وتقاليده، ولم نعرف الحزبيات أو النقابات أو الاستعمار، ولذلك جاء انتقالنا من حالة لأخرى سليماً وطبيعياً، غير أن ثورة المعلومات، والتواصل السريع بأدوات لم تكن متاحة للبشر فجرت المتغيرات الجديدة ضد الثوابت والمرتكزات التي اهتزت وشهدت الصدمة العنيفة من التحولات المتسارعة التي لم نستوعبها، بل هناك من قاومها حين انتشرت الأطباق الفضائية ثم الهواتف من الجيل الثاني والثالث التي تحمل أجهزة تصوير وتسجيل فثار الجدل عن المخاوف من أن يغرق المواطن في تقليد المجتمعات الغربية، ويبدأ يغير في معتقداته وسلوكه، وهي نفس المخاوف التي بدأت مع أول غزو دخل مجتمعنا من اللاسلكي «البرقيات» والمذياع والهاتف الثابت والطائرة والقطار، لكن جيل اليوم مختلف تماماً لا نقول إنه متمرد فاقد الصلة مع أسرته ومجتمعه، وإنما هو يعيش التفاعل الحضاري مع الكون المفتوح..

تصنيف مجتمعنا بالسياسي، وكيف يحتل هذا المفهوم المرتبة الثالثة أو الثانية بعد الهموم الاقتصادية والاجتماعية، فرضته طبيعة الأحداث التي طابعها مختلط من الليبرالي، إلى الديني المسيّس، وهي مرحلة الانتقال من صراعات كونية بين الشيوعية والرأسمالية، واللتين سادتا مجتمعات واعتنقتهما دول وأحزاب ومنظمات، إلى المرحلة الراهنة بضغطها السياسي على كل ما هو عربي والتي أدخلتنا متاهة عدم القدرة على الفرز بين التيارات المتصاعدة والمتحاربة حتى إن اليقين بأي اتجاه صار موضع شك، لأن الكل تسربل ولبس ثوب السياسة من أفق يعتقد أنه المرسوم الحقيقي لنجاح المجتمع وتخطيه الصعاب، ولذلك دخل المواطن من الجنسين، قسراً، بمتابعة الأحداث والتفاعل معها، وهي ليست، كالسابق مجرد أفكار وآراء تعالج بجدلية فلسفية سلمية حين دخل السلاح والأيديولوجيا الشمولية بتحقيق الدولة الكبرى إسلامية، أو الدولة الوطنية بحدودها الطبيعية والسياسية، ولكن ضمن شروط مدنية تلتقي حولها المصالح العامة..

الغريب أن هذا الانتقال صاحبه انتشار العنف بغطائه الديني فأصبح الفصل بين السياسة والدين شبه مستحيل، وقد رأينا كيف تعطى المسميات شبه المقدسة للأفراد والزعامات الإمام والخليفة والوالي، والمجاهد .. إلخ، وهي التي صاحبها انتشار إعلامي تقني جذب مجاميع من الشباب غير عادية، وهي الصيغة الأخرى لتسييس المجتمعات باعتبارها الهمّ الأكبر، وطبيعي أن يكون مجتمعنا جزءاً من هذه المنظومة..
&